حكايات كليلة و دمنة
samedi 27 août 2011
باب الأسد والثور وهو أول الكتاب
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف، وهو رأس البراهمة: اضرب لنا مثلاً لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال، حتى يحملهما على العداوة والبغضاء. قال بيدبا: إذا ابتلي المتحابان بأن يدخل بينهما الكذوب المحتال، لم يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا. ومن أمثال ذلك أنه كان بأرض دستاوند رجلٌ شيخٌ وكان له ثلاثة بنين. فلما بلغوا أشدهم أسرفوا في مال أبيهم؛ ولم يكونوا احترفوا حرفةً يكسبون لأنفسهم بها خيراً. فلامهم أبوهم؛ ووعظهم على سوء فعلهم؛ وكان من قوله لهم: يا بني إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لن يدركها إلا بأربعة أشياء: أما الثلاثة التي يطلب، فالسعة في الرزق والمنزلة في الناس والزاد للآخرة؛ وأما الأربعة التي يحتاج إليها في درك هذه الثلاثة، فاكتساب المال من أحسن وجه يكون، ثم حسن القيام على ما اكتسب منه، ثم استثماره، ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان، فيعود عليه نفعه في الآخرة. فمن ضيع شيئاً من هذه الأحوال لم يدرك ما أراد من حاجته: لأنه إن لم يكتسب، لم يكن مالٌ يعيش به؛ وإن هو كان ذا مالٍ واكتسابٍ ثم لم يحسن القيام عليه، أوشك المال أن يفنى ويبقى معدماً؛ وإن هو وضعه ولم يستثمره، لم تنعه قلة الإنفاق من سرعة الذهاب: كالكحل الذي لا يؤخذ منه إلا غبار الميل ثم هو مع ذلك سريعٌ فناؤه. وإن أنفقه في غير وجهه، ووضعه في غير موضعه، وأخطأ في مواضع استحقاقه، صار بمنزلة الفقير الذي لا مال له؛ ثم لا يمنع ذلك ماله من التلف بالحوادث والعلل التي تجري عليه؛ كمحبس الماء الذي لا تزال المياه تنصب فيه، فإن لم يكن له مخرجٌ ومفيضٌ ومتنفسٌ يخرج الماء منه بقدر ما ينبغي، خرب وسال ونز من نواحٍ كثيرةٍ، وربما انبثق البثق العظيم فذهب الماء ضياعاً. ثم أنبني الشيخ اتعظوا بقول أبيهم وأخذوا به وعلموا أن فيه الخير وعولوا عليه؛ فانطلق أكبرهم نحو أرضٍ يقال لها ميون؛ فأتى في طريقه على مكانٍ فيه وحلٌ كثيرٌ؛ وكان معه عجلةٌ يجرها ثوران يقال لأحدهما شتربة وللآخر بندبة، فوحل شتربة في ذلك المكان، فعالجه الرجل وأصحابه حتى بلغ منهم الجهد، فلم يقدروا على إخراجه؛ فذهب الرجل وخلف عنده رجلاً يشارفه: لعل الوحل ينشف فيتبعه بالثور. فلما بات الرجل بذلك المكان، تبرم به واستوحش؛ فترك الثور والتحق بصاحبه، فأخبره أن الثور قد مات؛ وقال له: إن الإنسان إذا انقضت مدته وحانت منيته فهو وإن اجتهد في التوقي من الأمور التي يخاف فيها على نفسه الهلاك لم يغن ذلك عنه شيئاً؛ وربما عاد اجتهاده في توقيه وحذره وبالاً عليه .
كالذي قيل: إن رجلاً سلك مفازةً فيها خوفٌ من السباع؛ وكان الرجل خبيراً بوعث تلك الأرض وخوفها؛ فلما سار غير بعيد اعترض له ذئبٌ من أحد الذئاب وأضراها؛ فلما رأى الرجل أن الذئب قاصد نحوه خاف منه، ونظر يميناً وشمالاً ليجد موضعاً يتحرز فيه من الذئب فلم ير إلا قريةً خلف واد؛ ورأى الذئب قد أدركه، فألقى نفسه في الماء، وهو لا يحسن السباحة، وكاد يغرق، لولا أن بصر به قومٌ من أهل القرية؛ فتواقعوا لإخراجه فأخرجوه، وقد أشرف على الهلاك؛ فلما حصل الرجل عندهم وأمن على نفسه من غائلة الذئب رأى على عدوة الوادي بيتاً مفرداً؛ فقال: أدخل هذا البيت فأستريح فيه. فلما دخله وجد جماعةً من اللصوص قد قطعوا الطريق على رجلٍ من التجار. وهم يقتسمون ماله؛ ويريدون قتله؛ فلما رأى الرجل ذلك خاف على نفسه ومضى نحو القرية؛ فأسند ظهره إلى حائط من حيطانها ليستريح مما حل به من الهول والإعياء، إذ سقط الحائط عليه فمات. قال التاجر: صدقت؛ قد بلغني هذا الحديث. وأما الثور فإنه خلص من مكانه وانبعث. فلم يزل في مرجٍ مخصبٍ كثير الماء والكلأ؛ فلما سمن وأمن جعل يخور ويرفع صوته بالخوار. وكان قريباً منه أجمةٌ فيها أسدٌ عظيمٌ؛ وهو ملك تلك الناحية، ومعه سباعٌ كثيرةٌ وذئابٌ وبنات آوى وثعالب وفودٌ ونمورٌ؛ وكان هذا الأسد منفرداً برأيه دون أخذٍ برأي أحدٍ من أصحابه. فلما سمع خوار الثور، ولم يكن رأى ثوراُ قط، ولا سمع خواره؛ لأنه كان مقيماً مكانه لا يبرح ولا ينشط؛ بل يؤتى برزقه كل يومٍ على يد جنده. وكان فيمن معه من السباع ابنا آوى يقال لأحدهما كليلة وللآخر دمنة؛ وكانا ذوي دهاء وعلمٍ وأدبٍ. فقال دمنة لأخيه كليلة: يا أخي ما شأن الأسد مقيماً مكانه لا يبرح ولا ينشط? قال له كليلة: ما شأنك أنت والمسألة عن هذا? نحن على باب ملكنا آخذين بما أحب وتاركين لما يكره؛ ولسنا من أهل المرتبة التي يتناول أهلها كلام الملوك والنظر في أمورهم. فأمسك عن هذا، واعلم أنه من تكلف من القول والفعل ما ليس من شأنه أصابه ما أصاب القرد من النجار. قال دمنة: وكيف كان ذلك? قال كليلة: زعمواً أن قرداً رأى نجاراً يشق خشبة بين وتدين، وهو راكب عليها؛ فأعجبه ذلك. ثم إن النجار ذهب لبعض شأنه. فقام القرد؛ وتكلف ما ليس من شغله، فركب الخشبة، وجعل ظهره قبل الوتد، ووجهه قبل الخشبة؛ فتدلى ذنبه في الشق، ونزع الوتد فلزم الشق عليه فخر مغشياً عليه. فكان ما لقي من النجار من الضرب أشد مما أصابه من الخشبة. قال دمنة: قد سمعت ما ذكرت، ولكن اعلم أن كل من يدنو من الملوك ليس يدنو منهم لبطنه، وإنما يدنو منهم ليسر الصديق ويكبت العدو. وإن من الناس من لا مروءة له؛ وهم الذين يفرحون بالقليل ويرضون بالدون؛ كالكلب الذي يصيب عظماً يابساً فيفرح به. وأما أهل الفضل والمروءة فلا يقنعهم القليل، ولا يرضون به، دون أن تسموا به نفوسهم إلى ما هم أهلٌ له، وهو أيضاً لهم أهلٌ؛ كالأسد الذي يفترس الأرنب، فإذا رأى البعير تركها وطلب البعير، ألا ترى أن الكلب يبصبص بذنبه. حتى ترمى له الكسرة، وأن الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قدم إليه علفه لا يعتلفه حتى يمسح ويتملق له. قمن عاش ذا مالٍ وكان ذا فضلٍ وإفضالٍ على أهله وإخوانه فهو وإن قل عمره طويل العمر. ومن كان في عيشه ضيقٌ وقلةٌ وإمساكٌ على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه. ومن عمل لبطنه وقنع وترك ما سوى ذلك عد من البهائم.
قال كليلة: قد فهمت ما قلت؛ فراجع عقلك، واعلم أن لكل إنسانٍ منزلةً وقدراً. فإن كان في منزلته التي هو فيها متماسكاً، كان حقيقاً أن يقنع. وليس لنا من المنزلة ما يحط حالنا التي نحن عليها. قال دمنة: إن المنازل متنازعةٌ مشتركةٌ على قدر المروءة؛ فالمرء ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة؛ ومن لا مروءة له يحط نفسه من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة. إن الارتفاع إلى المنزلة الشريفة شديدٌ، والانحطاط منه مهينٌ؛ كالحجر الثقيل: رفعه من الأرض إلى العاتق عسرٌ، ووضعه إلى الأرض هينٌ. فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من المنازل، وأن نلتمس ذلك بمروءتنا. ثم كيف نقنع بها ونحن نستطيع التحول عنها? قال كليلة: فما الذي اجتمع عليه رأيك? قال دمنة: أريد أن أتعرض لأسد عند هذه الفرصة: فإن الأسد ضعيف الرأي. ولعلي على هذه الحال أدنو منه فأصيب عنده منزلةً ومكانةً. قال كليلة: وما يدريك أن الأسد قد التبس عليه أمره? قال دمنة: بالحس والرأي أعلم ذلك منه: فإن الرجل ذا الرأي يعرف حال صاحبه وباطن أمره بما يظهر له من دله وشكله. قال كليلة: فكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست بصاحب السلطان، ولا لك علمٌ بخدمة السلاطين? قال دمنة: الرجل الشديد القوي لا يعجزه الحمل الثقيل، وإن لم تكن عادته الحمل؛ والرجل الضعيف لا يستقل به وإن كان ذلك من صناعته. قال كليلة: فإن السلطان لا يتوخى بكرامته فضلاء من بحضرته؛ ولكنه يؤثر الأدنى ومن قرب منه. ويقال: إن مثل السلطان في ذلك مثل شجر الكرم الذي لا يعلق إلا بأقرب الشجر. وكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست تدنو منه? قال دمنة: قد فهمت كلامك جميعه وما ذكرت، وأنت صادقٌ. لكن اعلم أن الذي هو قريبٌ من السلطان ولا ذلك في موضعه ولا تلك منزلته، ليس كمن دنا منه بعد البعد وله حقٌ وحرمةٌ؛ وأنا ملتمس بلوغ مكانتهم بجهدي. وقد قيل: لا يواظب على باب السلطان إلا من يطرح الأنفة ويحمل الأذى ويكظم الغيظ ويرفق بالناس ويكتم السر؛ فإذا وصل إلى ذلك فقد بلغ مراده. قال كليلة: هبك وصلت إلى الأسد، فما توفيقك عنده الذي ترجو أن تنال به المنزلة والحظوة لديه? قال دمنة: لو دنوت منه وعرفت أخلاقه، لرفقت في متابعته وقلة الخلاف له. وإذا أراد أمراً هو في نفسه صواب، زينته له وصبرته عليه، وعرفته بما فيه من النفع والخير؛ وشجعته عليه وعلى الوصول إليه، حتى يزداد به سروراً. وإذا أراد أمراً بما فيه الضر والشين، وأوقفته على ما في تركه من النفع والزين، بحسب ما أجد إليه السبيل. وأنا أرجو أن أزداد بذلك عند الأسد مكانةً ويرى مني ما لا يراه من غيري: فإن الرجل الأديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقاً أو يحق باطلاً لفعل: كالمصور الماهر الذي يصور في الحيطان صوراً كأنها خارجةٌ وليست بخارجةٍ، وأخرى كأنها داخلةٌ وليست بداخلةٍ. قال كليلة: أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإن أخاف عليك من السلطان فإن صحبته خطرةٌ. وقد قالت العلماء: إن أموراً ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج، ولا يسلم منهن إلا قليلٌ، وهي: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة. وإنما شبه العلماء السلطان بالجبل الصعب المرتقى الذي فيه الثمار الطيبة والجواهر النفيسة والأدوية النافعة. وهو مع ذلك معدن السباع والنمور والذئاب وكل ضارٍ مخوفٍ. فالارتقاء إليه شديدٌ، والمقام فيه أشد. قال دمنة: صدقت فيما ذكرت؛ غير أنه من لم يركب الأهوال، لم ينل الرغائب؛ ومن ترك الأمر الذي لعله يبلغ فيه حاجته هيبةً ومخافةً لما لعله أن يتوقاه، فليس ببالغٍ جسيماً. وقد قيل: إن خصالاً ثلاثاً لن يستطيعها أحد إلا يمعونة من علو همةٍ وعظيم خطرٍ: منها عمل السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدو. وقد قالت العلماء في الرجل الفاضل الرشيد: إن لا يرى إلا في مكانين، ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرماً، وإما مع النساك متعبداً، كالفيل إنما جماله وبهاؤه في مكانتين: إما أن تراه وحشياً وإما مركباً للملوك. قال كليلة: خار الله لك فيما عزمت عليه.
ثم إن دمنة انطلق حتى دخل الأسد فسلم عيه. فقال الأسد لبعض جلسائه: من هذا? فقال فلان بن فلان. قال: قد كنت أعرف أباه. ثم سأله أين تكون? قال: لم أزل ملازماً باب الملك، رجاء أن يحضر أمرٌ فأعين الملك به بنفسي ورأيي: فإن أبواب الملك تكثر فيها الأمور التي ربما تحتاج فيها إلى الذي لا يؤبه له؛ وليس أحدٌ يصغر أمره إلا وقد يكون عنده بعض الغناء والمنافع على قدره؛ حتى العود الملقى في الأرض ربما نفع، فيأخذه الرجل فيكون عدته عند الحاجة إليه. فلما سمع الأسد قول دمنة أعجبه، وظن أن عنده نصيحةً ورأياً. فأقبل على من حضر فقال: إن الرجل ذا العلم والمروءة يكون خامل الذكر خافض المنزلة، فتأبى منزلته إلا أن تشب وترتفع؛ كالشعلة من النار يضربها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. فلما عرف دمنة أن الأسد قد عجب منه قال: إن رعية الملك تحضر باب الملك، رجاء أن يعرف ما عندها من علمٍ وافرٍ. وقد يقال: إن الفضل في أمرين: فضل المقاتل على المقاتل والعالم على العالم. وإن كثرة الأعوان إذا لم يكونوا مختبرين ربما تكون مضرةً على العمل: فإن العمل ليس رجاؤه بكثرة الأعوان ولكن بصالحي الأعوان. ومثل ذلك مثل الرجل الذي يحمل الحجر الثقيل، فيقل به نفسه، ولا يجد له ثمناً. والرجل الذي يحتاج إلى الجذوع لا يجزئه القصب وإن كثر. فأنت الآن أيها الملك حقيقٌ ألا تحقر مروءةٌ أنت تجدها عند رجل صغير المنزلة: فإن الصغير ربما عظم، كالعصب يؤخذ من الميتة فإذا عمل منه القوس أكرم، فتقبض عليه الملوك وتحتاج إليه في البأس واللهو.
وأحب دمنة أن يري القوم أن ما ناله من كرامة الملك غنما هو لرأيه ومروءته وعقله: لأنهم عرفوا قبل ذلك أن ذلك لمعرفته أباه، فقال: إن السلطان لا يقرب الرجال لقرب آبائهم، ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينبغي أن ينظر إلى كل رجلٍ بما عنده: لأنه لا شيء أقرب إلى الرجل من جسده ومن جسده ما يدوى حتى يؤذيه ولا يدفع ذلك عنه إلا بالدواء الذي يأتيه من بعد.
فلما فرغ دمنة من مقالته هذه أعجب الملك به إعجاباً شديداً، وأحسن الرد عليه، وزاد في كرامته. ثم قال لجلسائه: ينبغي للسلطان ألا يلج في تضييع حق ذوي الحقوق. والناس في ذلك رجلان: رجلٌ طبعه الشراسة، فهو كالحية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه، لم يكن جديراً أن يغره ذلك منها، فيعود إلى وطئها ثانية فتلدغه؛ ورجلٌ أصل طباعه السهولة، فهو كالصندل البارد الذي إذا أفرط في حكه صار حاراً مؤذياً.
ثم إن دمنة استأنس بالأسد وخلا به. فقال يوما: أرى الملك قد أقام في مكانٍ واحدٍ لا يبرح منه، فما سبب ذلك? فبينما هما في هذا الحديث إذ خار شتربة خواراً شديداً: فهيج الأسد وكره أن يخبر دمنة بما ناله؛ وعلم دمنة أن ذلك الصوت قد أدخل على الأسد ريبةً وهيبةً. فسأله: هل راب الملك سماع هذا الصوت? قال لم يربني شيءٌ سوى ذلك. قال دمنة: ليس الملك بحقيقٍ أن يدع مكانه لأجل صوتٍ. فقد قالت العلماء: إن ليس من كل الأصوات تجب الهيبة. قال الأسد: وما مثل ذلك?
قال دمنة: زعموا أن ثعلباً أتى أجمةً فيها طبل معلق على شجرةٍ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرية حركتها، فضربت الطبل فسمع له صوتٌ عظيمٌ؛ فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظم صوته؛ فلما أتاه وجده ضخماً، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم. فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه، قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثةً. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن هذا الصوت الذي راعنا، لو وصلنا إليه، لوجدناه ايسر مما في أنفسنا. فإن شاء الملك بعثني وأقام بمكانه حتى آتيه ببيان هذا الصوت. فوافق الأسد قوله، فأذن له بالذهاب نحو الصوت. فانطلق دمنة إلى المكان الذي فيه شتربة. فلما فصل دمنة من عند الأسد، فكر الأسد في أمره، وندم على إرسال دمنة حيث أرسله، وقال في نفسه: وأصبت في ائتماني دمنة، وقد كان ببابي مطروحاً، فإن الرجل إذا كان يحضر باب الملك، وقد أبطلت حقوقه من غير جرمٍ كان منه، أو كان مبغياً عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفاً بالشره والحرص، أو كان قد أصابه ضرٌ وضيقٌ فلم ينعشه، أو كان قد اجترم جرماً فهو يخاف العقوبة منه، أو كان يرجو شيئاً يضر الملك وله منه نفع؛ أو يخاف في شيءٍ مما ينفعه ضراً، أو كان لعدو الملك مسالماً، ولمسالمه محارباً، فليس السلطان بحقيقٍ أن يعجل بالاسترسال إليه، والثقة به، والائتمان له: فإن دمنة داهيةٌ أريبٌ. وقد كان ببابي مطروحاً مجفواً. ولعله قد احتمل علي بذلك ضغناً، ولعل ذلك يحمله على خيانتي وإعانة عدوي ونقيصتي عنده؛ ولعله صادف صاحب الصوت أقوى سلطاناً مني فيرغب به عني ويميل مع عليّ. ثم قام من مكانه فمشى غير بعيدٍ، فبصر بدمنة مقبلاً نحوه فطابت نفسه بذلك، ورجع إلى مكانه، ودخل دمنة على الأسد فقال له: ماذا صنعت? وماذا رأيت? قال: رأيت ثوراً هو صاحب الخوار والصوت الذي سمعته. قال: فما قوته? قال: لا شوكة له. وقد دنوت منه وحاورته محاورة الأكفاء ولا يصغرن عندك أمره: فإن الريح الشديدة لا تعبأ بضعيف الحشيش، لكنها تحطم طوال النخل وعظيم الشجر. قال دمنة: لا تهابن أيها الملك منه شيئاً؛ ولا يكبرن عليك أمره: فأنا آتيك به ليكون لك عبداً سامعاً مطيعاً. قال الأسد: دونك وما بدا لك.
فانطلق دمنة إلى الثور، فقال له غير هائب ولا مكترث: إن الأسد أرسلني إليك لآتيه بك. وأمرني، إن أنت عجلت إليه طائعاً، أو أؤمنك على ما سلف من ذنبك في التأخر عنه وتركك لقاءه؛ وإن أنت تأخرت عنه وأحجمت، أن أعجل الجرعة إليه فأخبره. قال له شتربة: ومن هو هذا الأسد الذي أرسلك إلي? وأين هو? وما حاله? قال دمنة: هو ملك السباع، وهو بمكان كذا، ومعه جندٌ كثيرٌ من جنسه فرعب شتربة من ذكر الأسد والسباع. وقال: إن أنت جعلت لي الأمان على نفسي أقبلت معك إليه. فأعطاه دمنة من الأمان ما وثق به. ثم أقبل والثور معه، حتى دخلا على الأسد فأحسن الأسد إلى الثور وقرّبه؛ وقال له: متى قدمت هذه البلاد? وما أقدمكها? فقص شتربة عليه قصته. فقال له الأسد اصحبني والزمني: فإني مكرمك. فدعا الثور وأثنى عليه.
ثم إن الأسد قرب شتربة وأكرمه وأنس به وأتمنه على أسراره وشاوره في أمره، ولم تزده الأيام إلا عجباً به ورغبةً فيه وتقريباً منه؛ حتى صار أخص أصحابه عنده منزلةً. فلما رأى دمنة أن الثور قد اختص بالأسد دونه ودون أصحابه، وأنه قد صاد صاحب رأيه وخلواته ولهوه، حسده حسداً عظيماً، وبلغ منه غيظه كل مبلغ: فشكا ذلك إلى أخيه كليلة، وقال له: ألا تعجب يا أخي من عجز رأيي، وصنعي بنفسي? ونظري فيما ينفع الأسد، وأغفلت نفع نفسي حتى جلبت إلى الأسد ثوراً غلبني على منزلتي.
قال كليلة: أخبرني عن رأيك وما تريد أن تعرم عليه في ذلك. قال دمنة: أما أنا فلست اليوم أرجو أن تزداد منزلتي عند الأسد فوق ما كانت عليه؛ ولكن ألتمس أن أعود إلى ما كنت عليه: فإن أموراً ثلاثةً العاقل جدير بالنظر فيها، والاحتيال لها بجهده: منها النظر فيما مضى من الضر والنفع، فيحترس من الضر الذي أصابه فيما سلف لئلا يعود إلى ذلك الضر، ويلتمس النفع الذي مضى ويحتال لمعاودته؛ ومنها النظر فيما هو مقيم فيه من المنافع والمضاء، والاستيثاق بما ينفع والهرب مما يضر؛ ومنها النظر في مستقبل ما يرجو من قبل النفع، وما يخاف من قبل الضر، فيستتم ما يرجو ويتوقى ما يخاف بجهده. وإني لما نظرت في الأمر الذي به أرجو أن تعود منزلتي، وما غلبت عليه مما كنت فيه، لم أجد حيلةً ولا وجهاً إلا الاحتيال لآكل العشب هذا، حتى أفرق بينه وبين الحياة: فإنه إن فارق الأسد عادت لي منزلتي. ولعل ذلك يكون خيراً للأسد: فإن إفراطه في تقريب الثور خليقٌ أن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: ما أرى على الأسد في رأيه في الثور ومكانه منه ومنزلته عنده شيناً ولا شراً. قال دمنة: إنما يؤتى السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء: الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخرق.
فأما الحرمان فأن يحرم صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والأمانة، وترك التفقد لمن هو كذلك. وأما الفتنة فهي تحارب الناس ووقوع الحرب بينهم. وأما الهوى فالغرام بالحدث واللهو والشراب والصيد وما أشبه ذلك. وأما الفظاظة فهي إفراط الشدة حتى يجمح اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين والموت ونقص الثمرات والغزوات وأشباه ذلك. وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة. وإن الأسد قد أغرم بالثور إغراماً شديداً هو الذي ذكرت لك أنه خليق لأن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد وأكثر أعواناً? قال دمنة: لا تنظر إلى صغري وضعفي: فإن الأمور ليست بالضعف ولا القوة ولا الصغر ولا الكبر في الجثة: فرب صغيرٍ ضعيفٍ قد بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير من الأقوياء. أولم يبلغك أن غراباً ضعيفاً احتال لأسود حتى قتله? قال كليلة: وكيف كان ذلك? قال دمنة: زعموا أن غراباً كان له وكرٌ في شجرةٍ على جبلٍ؛ وكان قريباً منه حجر ثعبانٍ أسود، فكان الغراب إذا فرخ عمد الأسود إلى فراخه فأكله؛ فبلغ ذاك من الغراب وأحزنه، فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوى؛ وقال له: أريد مشاورتك في أمرٍ قد عزمت عليه؛ قال: وما هو? قال الغراب: قد عزمت أن أذهب اليوم إلى الأسود إذا نام، فأنقر عينيه، فأفقأهما، لعلي أستريح منه. قال ابن آوى: بئس الحيلة التي احتلت؛ فالتمس أمراً تصيب فيه بغيتك من الأسود، من غير أن تغرر بنفسك وتخاطر بها. وإياك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان فقتل نفسه. قال الغراب: وكيف كان ذلك?
قال ابن آوى: زعموا أن علجوماً عشّش في أجمةٍ كبيرة السمك؛ فعاش بها ما عاش؛ ثم هرم فلم يستطع صيداً؛ فأصابه جوعٌ وجهدٌ شديدٌ؛ فجلس حزيناً يلتمس الحيلة في أمره؛ فمر به سرطانٌ، فرأى حالته وما هو عليه من الكآبة والحزن؛ فدنا منه وقال: مالي أراك أيها الطائر هكذا حزيناً كئيباً? قال العلجوم: وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ها هنا من السمك? وإني قد رأيت اليوم صيادين قد مرا بهذا المكان؛ فقال أحدهما لصاحبه: إن ها هنا سمكاً كثيراً أفلا نصيده أولاً? فقال الآخر: إني قد رأيت في مكان كذا سمكاً أكثر من هذا السمك، فلنبدأ بذلك، فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذا فأفنيناه. وقد علمت أنهما إذا فرغا مما هناك، انتهيا إلى هذه الأجمة فاصطادا ما فيها؛ فإذا كان ذلك فهو هلاكي ونفاذ مدتي. فانطلق السرطان من ساعته إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك؛ فأقبلن إلى العلجوم فاستشرنه؛ وقلن له: إنا أتينا لك لتشير علينا: فإن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوه. قال العلجوم: أما مكابرة الصيادين فلا طاقة لي بها؛ ولا أعلم حيلةً إلا المصير إلى غديرٍ قريبٍ من ها هنا، فيه سمكٌ ومياهٌ عظيمةٌ وقصبٌ، فإن استطعن الانتقال إليه، كان فيه صلاحكن وخصبكن. فقلن له: ما يمن علينا بذلك غيرك. فجعل العلجوم يحمل في كل يوم سمكتين حتى ينتهي بهما إلى بعض التلال فيأكلهما؛ حتى إذا كان ذات يوم جاء لأخذ السمكتين؛ فجاءه السرطان؛ فقال له: إني أيضاً قد أشفقت من مكاني هذا واستوحشت منه فاذهب بي إلى ذلك الغدير؛ فاحتمله وطار به، حتى إذا دنا من التل الذي كان يأكل السمك فيه نظر السرطان فرأى عظام السمك مجموعةً هناك؛ فعلم أن العلجوم هو صاحبها؛ وأنه يريد به مثل ذلك. فقال في نفسه: إذا لقي الرجل عدوه في المواطن التي يعلم أنه فيها هالك. سواءٌ قاتل أم لم يقاتل؛ كان حقيقاً أن يقاتل عن نفسه كرماً وحفاظاً ، ثم أهوى بكلبتيه على عنق العلجوم، فعصره فمات؛ وتخلص السرطان إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن بعض الحيلة مهلكة للمحتال ولكني أدلك على أمرٍ، إن أنت قدرت عليه، كان فيه هلاك الأسود من غير أن تهلك به نفسك، وتكون فيه سلامتك. قال الغراب وما ذاك? قال ابن آوى: تنطلق فتبصر في طيرانك: لعلك أن تظفر بشيءٍ من حلي النساء فتخطفه؛ ولا تزال طائراً واقعاً، بحيث لا تفوت العيون، حتى تأتي حجر الأسود فترمي بالحلي عنده. فإذا رأى الناس ذلك أخذوا حليهم وأراحوك من الأسود. فانطلق الغراب محلقا في السماء؛ فوجد امرأةً من بنات العظماء فوق سطح تغتسل؛ وقد وضعت ثيابها وحليها ناحيةً؛ فانقض واختطف من حليها عقداً، وطار به، فتبعه الناس؛ ولم يزل طائراً واقعاً، بحيث يراه كل أحدٍ؛ حتى انتهى الأمر إلى جحر الأسود؛ فألقى العقد عليه، والناس ينظرون إليه. فلما أتوه أخذوا العقد وقتلوا الأسود. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن الحيلة تجرئ مالا تجزئ القوة. قال كليلة: إن الثور لو لم يجتمع مع شدته رأيه لكان كما تقول. ولكن له مع شدته وقوته حسن الرأي والعقل. فماذا تستطيع له? قال دمنة: إن الثور لكما ذكرت في قوته ورأيه، ولكنه مقرٌ لي بالفضل؛ وأنا خليق أن اصرعه كما صرعت الأرنب الأسد. قال كليلة: وكيف كان ذلك?
قال دمنة: زعموا أن أسداً كان في أرضٍ كثيرة المياه والعشب؛ وكان في تلك الأرض من الوحوش في سعة المياه والمرعى شيءٌ كثيرٌ؛ إلا أنه لم يكن ينفعها ذلك لخوفها من الأسد؛ فاجتمعت وأتت إلى الأسد، فقالت له: إنك لتصيب منا الدابة بعد الجهد والتعب؛ وقد رأينا لك رأياً فيه صلاح لك وأمنٌ لنا. فإن أنت امنتنا ولم تخفنا، فلك علينا في كل يومٍ دابةٌ نرسل بها إليك في وقت غدائك: فرضي الأسد بذلك، وصالح الوحوش عليه، ووفين له به. ثم إن أرنباً أصابتها القرعة، وصارت غداء الأسد؛ فقالت للوحوش: إن أنتن رفقتن بي فيما لا يضركن؛ رجوت أن أريحكن من الأسد. فقالت الوحوش: وما الذي تكلفيننا من الأمور? قالت: تأمرن الذي ينطلق بي إلى الأسد أن يمهلني ريثما أبطئ عليه بعض الإبطاء. فقلن لها ذلك لك. فانطلقت الأرنب متباطئةً؛ حتى جاوزت الوقت الذي كان يتغدى فيه الأسد. ثم تقدمت إليه وحدها رويداً، وقد جاع؛ فغضب وقام من مكانه نحوها؛ فقال لها: من أين أقبلت? قالت: أنا رسول الوحوش إليك: بعثني ومعي أرنبٌ لك، فتبعني أسدٌ في بعض تلك الطريق، فأخذها مني، وقال: أنا أولى بهذه الأرض وما فيها من الوحش. فقلت: إن هذا غداء الملك أرسلني به الوحوش إليه. فلا تغصبنه، فسبك وشتمك. فأقبلت مسرعةً لأخبرك. فقال الأسد: انطلقي معي فأريني موضع هذا الأسد. فانطلقت الأرنب إلى جب فيه ماءٌ غامرٌ صافٍ؛ فاطلعت فيه، وقالت: هذا المكان. فاطلع الأسد، فرأى ظله وظل الأرنب في الماء؛ فلم يشك في قولها؛ ووثب إليه ليقاتله، فغرق في الجب. فانقلبت الأرنب إلى الوحوش فأعلمتهن صنيعها بالأسد. قال كليلة: إن قدرت على هلاك الثور بشيءٍ ليس فيه مضرةٌ للأسد فشأنك: فإن الثور قد أضر بي وبك وبغيرنا من الجند؛ وإن أنت لم تقدر على ذلك إلا بهلاك الأسد، فلا تقدم عليه؛ فإنه غدرٌ مني ومنك. ثم إن دمنة ترك الدخول على الأسد أياماً كثيرةً؛ ثم أتاه على خلوةٍ منه؛ فقال له الأسد: ما حبسك عني? منذ زمان لم أرك. ألا لخيرٍ كان انقطاعك? قال دمنة: فليكن خيراً أيها الملك. قال الأسد: وهل حدث أمرٌ? قال دمنة: حدث ما لم يكن الملك يريده ولا أحد من جنده. قال: وما ذاك? قال: كلامٌ فظيعٌ. قال: أخبرني به. قال دمنة إنه كلامٌ يكرهه سامعه، ولا يشجع عليه قائله. وإنك أيها الملك لذو فضيلةٍ، ورأيك يدلك على أن يوجعني أن أقول ما تكره؛ وأثق بك أن تعرف نصحي وإيثاري إياك على نفسي. وإنه ليعرض لي أنك غير مصدقي فيما أخبرك به؛ ولكني إذا تذكرت وتفكرت أن نفوسنا، معاشر الوحوش، متعلقةٌ بك لم أجد بداً من أداء الحق الذي يلزمني وإن أنت لم تسألني وخفت ألا تقبل مني فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته والإخوان رأيه فقد خان نفسه. قال الأسد: فما ذاك? قال دمنة: حدثني الأمين الصدوق عندي أن شتربة خلا برءوس جندك، وقال: قد خبرت الأسد وبلوت رأيه ومكيدته وقوته: فاستبان لي أن ذلك يئول منه إلى ضعفٍ وعجزٍ، وسيكون لي وله شأنٌ من الشئون. فلما بلغني ذلك علمت أن شتربة خوانٌ غدارٌ؛ وأنك أكرمته الكرامة كلها، وجعلته نظير نفسك، وهو يظن أنه مثلك. وأنك متى زلت عن مكانك صار له ملكك؛ ولا يدع جهداً إلا بلغه فيك. وقد كان يقال: إذا عرف الملك من الرجل أنه قد ساواه في المنزلة والحال، فليصرعه؛ فإن لم يفعل به ذلك، كان هو المصروع. وشتربة أعلم بالأمور وأبلغ فيها؛ والعاقل هو الذي يحتال للأمر قبل تمامه ووقوعه: فإنك لا تأمن أن يكون ولا تستدركه. فإنه يقال: الرجال ثلاثةٌ: حازمٌ وأحزم منه وعاجزٌ؛ فأحد الحازمين من إذا نزل به الأمر لم يدهش له، ولم يذهب قلبه شعاعاً ، ولم تعي به حيلته ومكيدته التي يرجو بها المخرج منه؛ وأحزم من هذا المتقدم ذو العدة الذي يعرف الابتلاء قبل وقوعه، فيعظمه إعظاماً، ويحتال له حتى كأنه قد لزمه: فيحسم الداء قبل أن يبتلي به، ويدفع الأمر قبل وقوعه. وأما العاجز فهو في ترددٍ وتمنٍ وتوانٍ حتى يهلك. ومن أمثال ذلك مثل السمكات الثلاث. قال الأسد: وكيف كان ذلك?
قال دمنة: زعموا أن غديراً كان فيه ثلاث سمكاتٍ: كيسةٌ وأكيس منها وعاجزةٌ؛ وكان ذلك الغدير بنجوةً من الأرض لا يكاد يقربه أحدٌ وبقربه نهر جارٍ. فاتفق أنه اجتاز بذلك النهر صيادان؛ فأبصرا الغدير، فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك. فسمع السمكات قولهما: فأما أكيسهن لما سمعت قولهما، وارتابت بهما، وتخوفت منهما؛ فلم تعرج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل فيه الماء من النهر إلى الغدير. وأما الكيسة فإنها مكثت مكانها حتى جاء الصيادان؛ فلما رأتهما، وعرفت ما يريدان، ذهبت لتخرج من حيث يدخل الماء؛ فإذا بهما قد سدا ذلك المكان فحينئذٍ قالت: فرطت، وهذه عاقبة التفريط؛ فكيف الحيلة على هذه الحال. وقلما تنجع حيلة العجلة والإرهاق ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ولا ييئس على حالٍ، ولا يدع الرأي والجهد. ثم إنها تماوتت فطفت على وجه الماء منقلبة على ظهرها تارةً، وتارةً على بطنها؛ فأخذها الصيادان فوضعاها على الأرض بين النهر والغدير؛ فوثبت إلى النهر فنجت. وأما العاجزة فما تزلْ في إقبال وإدبار حتى صيدت.
قال الأسد: قد فهمت ذلك؛ ولا أظن الثور يغشني ويرجو لي الغوائل . وكيف يفعل ولم ير مني سوءاً قطُّ? ولم أدع خيراً إلا فعلته معه? ولا أمنيةً إلا بلغته إياها?. قال دمنة: إن اللئيم لا يزال نافعاً ناصحاً حتى يرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهل؛ فإذا بلغها التمس ما فوقها؛ ولا سيما أهل الخيانة والفجور: فإن اللئيم الفاجر لا يخدم السلطان ولا ينصح له إلا من فرقٍ . فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره؛ كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم فلا يزال مستوياً ما دام مربوطاً؛ فإذا حل انحنى واعوج كما كان. واعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من نُصائِحه ما يثقل عليه مما ينصحون له به، لم يحمد رأيه؛ كالمريض الذي يدع ما يبعث له الطبيب؛ ويعمد إلى ما يشتهيه. وحق على موازر السلطان أن يبالغ في التحضيض له على ما يزيد من سلطانه قوةً ويزينه؛ والكف عما يضره ويشينه؛ وخير الإخوان والأعوان أقلهم مداهنة في النصيحة؛ وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار؛ وأشرف الملوك من لم يخالطه بطرٌ؛ وخير الأخلاق أعونها على الورع. وقد قيل: لو أن أمراً توسد النار وافترش الحيات، كان أحق ألا يهنئه النوم. والرجل إذا أحس من صاحبه بعداوةٍ يريده بها؛ لا يطمئن إليه؛ وأعجز الملوك آخذهم بالهوينى، وأقلهم نظراً في مستقبل الأمور. وأشبههم بالفيل الهائج الذي لا يلتفت إلى شيءٍ: فإن حز به أمر تهاون به، وإن أضاع الأمور حمل ذلك على قرنائه. قال له الأسد: لقد أغلظت في القول؛ وقول الناصح مقبولٌ محمولٌ. وإن كان شتربة معادياً لي، كما تقول، فإنه لا يستطيع لي ضراً؛ وكيف يقدر على ذلك وهو آكل عشب وأنا آكل لحم? وإنما هو لي طعام، وليس علي منه مخافةٌ. ثم ليس إلى الغدر به سبيل بعد الأمان الذي جعلته له، وبعد إكرامي له، وثنائي عليه. وإن غيرت ما كان مني وبدلته. سفهت رأيي وجهلت نفسي وغدرت بذمتي. قال دمنة: لا يغرنك قولك: هو لي طعام وليس علي منه مخافةٌ: فإن شتربة إن لم يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غيره. ويقال: إن استضافك ضيفٌ ساعةً من نهارٍ، وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك؛ ولا تأمن أن يصلك منه أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث. قال الأسد: وكيف كان ذلك?
قال دمنة: زعموا أن قملة لزمت فراش رجلٍ من الأغنياء دهراً فكانت تصيب من دمه وهو نائمٌ لا يشعر، وتدب دبيباً رفيقاً؛ فمكث كذلك حيناً حتى استضافها ليلةً من الليالي برغوثٌ؛ فقالت له: بت الليلة عندنا في دمٍ طيبٍ وفراشٍ لينٍ؛ فأقام البرغوث عندها حتى إذا أوى الرجل إلى فراشه وثب عليه البرغوث فلدغه لدغةً أيقظته؛ وأطارت النوم عنه؛ فقام الرجل وأمر أن يفتش فراشه؛ فنظر فلم ير إلا القملة؛ فأخذت فقصعت وفر البرغوث. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن صاحب الشر بسببه. وإن كنت لا تخاف من شتربة، فخف غيره من جندك الذين قد حملهم عليك وعلى عداوتك. فوقع في نفس الأسد كلام دمنة. فقال: فما الذي ترى إذاً? وبماذا تشير? قال دمنة: إن الضرس لا يزال متآكلاً، ولا يزال صاحبه منه في ألمٍ وأذًى حتى يفارقه. والطعام الذي قد عفن في البطن، الراحة في قذفه. والعدو المخوف، دواؤه قتله. قال الأسد: لقد تركتني أكره مجاورة شتربة إياي؛ وأنا مرسلٌ إليه، وذاكراً له ما وقع في نفسي منه؛ ثم آمره باللحاق حيث أحب. فكره دمنة ذلك، وعلم أن الأسد متى كلم شتربة في ذلك وسمع منه جواباً عرف باطل ما أتى به، واطلع على غدره وكذبه؛ ولم يخف عليه أمره. فقال للأسد: أما إرسالك إلى شتربة فلا أراه لك رأياً ولا حزماً؛ فلينظر الملك في ذلك: فإن شتربة متى شعر بهذا الأمر، خفت أن يعاجل الملك بالمكابرة. وهو إن قاتلك قاتلك مستعداً؛ وإن فارقك، فارقك فراقاً يليك منه النقص، ويلزمك منه العار. مع أن ذوي الرأي من الملوك لا يعلنون عقوبة من لم يعلن ذنبه؛ ولكن لكل ذنب عندهم عقوبةٌ: فلذنب العلانية عقوبة العلانية، ولذنب السر عقوبة السر. قال الأسد: إن الملك إذا عاقب أحداً عن ظنةٍ ظنها من غير تيقن بجرمه، فنفسه عاقب وإياها ظلم. قال دمنة: أما إذا كان هذا رأي الملك، فلا يدخلن عليك شتربة إلا وأنت مستعدٌ له؛ وإياك أن تصيبك منه غرةٌ أو غفلةٌ: فإني لا أحسب الملك حين يدخل عليه إلا سيعرف أنه قد هم بعظيمةٍ. ومن علامات ذلك أنك ترى لونه متغيراً؛ وترى أوصاله ترعد؛ وتراه ملتفتاً يميناً وشمالاً؛ وتراه يهز قرنيه فعل الذي هم بالنطاح والقتال. قال الأسد: سأكون منه على حذرٍ؛ وإن رأيت منه ما يدل على ما ذكرت علمت أن ما في أمره شكٌ.
فلما فرغ دمنة من حمل الأسد على الثور، وعرف أنه قد وقع في نفسه ما كان يلتمس، وأن الأسد سيتحذر الثور، ويتهيأ له، أراد أن يأتي الثور ليغريه بالأسد؛ وأحب أن يكون إتيانه من قبل الأسد مخافة أن يبلغه ذلك فيتأذى به. فقال: أيها الملك ألا آتي بشتربة فانظر إلى حاله وأمره؛ وأسمع كلامه: لعلي اطلع على سره، فأطلع الملك على ذلك، وعلى ما يظهر لي منه? فأذن له الأسد في ذلك. فانطلق فدخل على شتربة كالكئيب الحزين. فلما رآه الثور رحب به، وقال: كان سبب انقطاعك عني? فإني لم أرك منذ أيامٍ؛ ولعلك في سلامةٍ! قال دمنة: ومتى كان أهل السلامة من لا يملك نفسه، وأمره بيد غيره ممن لا يوثق به، ولا ينفك على خطرٍ وخوفٍ. حتى ما من ساعة تمر ويأمن فيها على نفسه. قال شتربة: وما الذي حدث? قال دمنة: حدث ما قدر وهو كائنٌ. ومن ذا الذي غالب القدر? ومن ذا الذي بلغ من الدنيا جسيماً من الأمور فلم يبطر? ومن ذا الذي بلغ منياه فلم يغتر? ومن ذا الذي تبع هواه فلم يخسر? ومن ذا الذي طلب من اللئام فلم يحرم? ومن ذا الذي خالط الأشرار فسلم? ومن ذا الذي صحب السلطان فذام له منه الأمن والإحسان? قال شتربة: إني أسمع منك كلاماً يدل على أنه قد رابك من الأسد ريبٌ، وهالك منه أمرٌ. قال دمنة: أجل، لقد رابني منه ذلك، وليس هو في أمر نفسي، قال شتربة: ففي نفس من رابك? قال دمنة: قد تعلم ما بيني وبينك، وتعلم حقك علي، وما كنت جعلت لك من العهد والميثاق أيام أرسلني الأسد إليك، فلم أجد لك بداً من حفظك وإطلاعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه. قال شتربة: وما الذي بلغك? قال دمنة: حدثني الخبير الصدوق الذي لا مرية في قوله أن الأسد قال لبعض أصحابه وجلسائه: قد أعجبني سمن الثور؛ وليس لي إلى حياته حاجةٌ، فأنا آكله ومطعم أصحابي من لحمه. فلما بلغني هذا القول، وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك لأقضي حقك؛ وتحتال أنت لأمرك. فلما سمع شتربة كلام دمنة، وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد والميثاق، وفكر في أمر الأسد، ظن أن دمنة قد صَدَقَهُ ونصح له؛ ورأى أن الأمر شبيهٌ بما قال دمنة. فأهمه ذلك؛ وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي ولم آت إليه ذنباً، ولا إلى أحد من جنده، منذ صحبته؛ ولا أظن الأسد إلا قد حمل علي بالكذب وشبه عليه أمري: فإن الأسد قد صحبه قوم سوءٍ؛ وجرَّب منهم الكذب وأموراً هي تصدق عنده ما بلغه من غيرهم: فإن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار؛ وحملته تجربته على الخطأ كخطأ البطة التي زعموا أنها رأت في الماء ضوء كوكبٍ، فظنته سمكةً، فحاولت أن تصيدها، فلما جربت ذلك مراراً، علمت أنه ليس بشيءٍ يصاد فتركته. ثم رأت من غد ذلك اليوم سمكةً، فظنت أنها مثل الذي رأته بالأمس، فتركتها ولم تطلب صيدها. فإن كان الأسد بلغه عني كذبٌ فصدقه علي وسمعه في، فما جرى على غيري يجري علي. وإن كان لم يبلغه شيءٌ، وأراد السوء بي من غير علةٍ، فإن ذلك لمن أعجب الأمور. وقد كان يقال: إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه ولا يرضى. وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط. فإذا كانت الموجدة عن علةٍ، كان الرضا موجوداً والعفو مأمولاً. وإذا كانت عن غير علةٍ، انقطع الرجاء: لأن العلة إذا كانت المودة في ورودها، كان الرضا مأمولاً في صدورها.
قد نظرت: فلا أعلم بيني وبين الأسد جرماً، ولا صغير ذنب، ولا كبيره. ولعمري ما يستطيع أحد أطال صحبة صاحب أن يحترس في كل شيءٍ من أمره، ولا أن يتحفظ من أن يكون منه صغيرةٌ أو كبيرةٌ يكرهها صاحبه؛ ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقطةً نظر فيها، وعرف قدر مبلغ خطئه عمداً كان أو خطأً. ثم ينظر هل في الصفح عنه أمرٌ يخاف ضره وشينه? فلا يؤاخذ صاحبه بشيءٍ يد فيه إلى الصفح عنه سبيلاً. فإن كان الأسد قد اعتقد على ذنباً؛ فلست أعلمه؛ إلا أني خالفته في بعض رأيه نصيحةً له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على الجراءة عليه والمخالفة له؛ ولا أجد لي في هذا المحضر إثماً ما: لأني لم أخالفه في شيءٍ إلا ما قد ندر من خالفة الرّشد والمنفعة والدِّين، ولم أجاهر بشيءٍ من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكني كنت أخلو به وأكلمه سراً كلام الهائب الموقر وعلمت أنه من التمس الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطاً ، وحمل الوزر. وإن لم يكن هذا، فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات السلطان: فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ، وإن صوحب بالسلامة والثقة والمودة وحسن الصحبة. وإن لم يكن هذا، فبعض ما أوتيت من الفضل قد جعل لي فيه الهلاك. وإن لم يكن هذا ولا هذا، فهو إذاً من مواقع القضاء والقدر الذي لا يدفع عنه؛ وهو الذي يحمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل الهائج؛ وهو الذي يسلط على الحية ذات الحمة من ينزع حمتها ويلعب بها؛ وهو الذي يجعل العاجز حازماً، ويثبط الشهم، ويوسع على المقتر ، ويشجع الجبان، ويجبن الشجاع عندما تعتريه المقادير من العلل التي وضعت عليه الأقدار.
قال دمنة: إن إرادة الأسد بك ليست من تحميل الأشرار ولا سكرة السلطان ولا غير ذلك، ولكنها الغدر والفجور منه: فإن فاجرٌ خوانٌ غدارٌ: لطعامه حلاوةٌ وآخره سمٌ مميتٌ. قال شتربة: فأراني قد استلذذت الحلاوة إذ ذقتها: وقد انتهيت إلى آخرها الذي هو الموت؛ ولولا الحين ما كان مقامي عند الأسد، وهو آكل لحمٍ وأنا آكل عشبٍ فأنا في هذه الورطة كالنحلة التي تجلس على نور النيلوفر إذ تستلذ ريحه وطعمه، فتحبسها تلك اللذة؛ فإذا جاء الليل ينضم عليها، فترتبك فيه وتموت. ومن لم يرض من الدنيا بالكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إلى ما سوى ذلك، ولم يتخوف من عاقبتها، كان كالذباب الذي لا يرضى بالشجرة والرياحين، ولا يقنعه ذلك، حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل، فيضربه الفيل بآذانه فيهلكه. ومن يبذل وده ونصيحته لمن لا يشكره، فهو كمن يبذر في السباخ. ومن يشر على المعجب، فهو كمن يشاور الميت أو يسار الأصم. قال دمنة: دع عنك هذا الكلام واحتل لنفسك. قال شتربة: بأي شيءٍ أحتال لنفسي، إذا أراد الأسد أكلي، مع ما عرفتني به من رأي الأسد وسوء أخلاقه? وأعلم أنه لم يرد بي إلا خيراً، ثم أراد أصحابه بمكرهم وفجورهم هلاكي لقدروا على ذلك فإنه إذا اجتمع المكرة الظلمة على البريء الصحيح، كانوا خلقاء أن يهلكوه، وإن كانوا ضعفاء وهو قوي؛ كما أهلك الذئب والغراب وابن آوى الجمل، حين اجتمعوا عليه بالمكر والخديعة والخيانة. قال دمنة: وكيف كان ذلك?
قال شتربة: زعموا أن أسداً كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطريقٍ من طرق الناس؛ وكان له أصحابٌ ثلاثةٌ: ذئبٌ وغرابٌ وابن آوى؛ وأن رعاةً مروا بذلك الطريق، ومعهم جمالٌ، فتخلف منها جملٌ، فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد؛ فقال له الأسد: من أين أقبلت? قال: من موضع كذا. قال: فما حاجتك? قال: ما يأمرني به الملك. قال: تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب. فأقام الأسد والجمل معه زمناً طويلاً. ثم إن الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد، فلقي فيلاً عظيماً، فقاتله قتالاً شديداً؛ وأفلت منه مثقلاً مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم، وقد خدشه الفيل بأنيابه. فلما وصل إلى مكانه، وقع لا يستطيع حراكاً، ولا يقدر على طلب الصيد؛ فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً: لأنهم كانوا يأكلون من فضلات الأسد وطعامه؛ فأصابهم جوعٌ شديدٌ وهزالٌ، وعرف الأسد ذلك منهم؛ فقال: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون. فقالوا لا تهمنا أنفسنا: لكنا نرى الملك على ما نراه. فليتنا نجد ما يأكله ويصلحه. قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم، ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيداً تأتونني به؛ فيصيبني ويصيبكم منه رزقٌ. فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد؛ فتنحوا ناحيةً، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: مالنا ولهذا الأكل العشب الذي ليس شأنه من شأننا، ولا رأيه من رأينا? ألا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه? قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد: لأنه قد أمن الجمل، وجعل له من ذمته عهداً. قال الغراب: أنا أكفيكم أمر الأسد. ثم انطلق فدخل على الأسد؛ فقال له الأسد: هل أصبت شيئاً? قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر. وأما نحن فلا سعي لنا ولا بصر: لما بنا من الجوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن وافقنا الملك فنحن له مجيبون. قال الأسد: وما ذاك? قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرّغ بيننا من غير منفعة لنا منه، ولا رد عائدةٍ، ولا عمل يعقب مصلحةً. فلما سمع الأسد ذلك غضب وقال: ما أخطأ رأيك، وما اعجز مقالك، وأبعدك من الوفاء والرحمة? وما كنت حقيقاً أن تجتري علي بهذه المقالة، وتستقبلني بهذا الخطاب؛ مع ما علمت من أني قد أمنت الجمل، وجعلت له من ذمتي. أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدقٌ بصدقةٍ هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفةً، وحقن دماً مهدراً? وقد أمنته ولست بغادر به. قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت؛ وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى بها أهل المصر؛ وأهل المصر فداء الملك. وقد نزلت بالملك الحاجة؛ وأنا أجعل له من ذمته مخرجاً، على ألا يتكلف الملك ذلك، ولا يليه بنفسه، ولا يأمر به أحداً؛ ولكنا نحتال بحيلةٍ لنا وله فيها إصلاحٌ وظفرٌ. فسكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب. فلما عرف الغراب إقرار الأسد أتى أصحابه، فقال لهم: قد كلمت الأسد في أكله الجمل؛ على أن نجتمع نحن والجمل عند الأسد، فنذكر ما أصابه، ونتوجع له اهتماماً منا بأمره، وحرصاً على صلاحه؛ ويعرض كل واحدٍ منا نفسه عليه تجملاً ليأكله، فيرد الآخران عليه، ويسفها رأيه، ويبينان الضرر في أكله. فإذا فعلنا ذلك، سلمنا كلنا ورضي الأسد عنا. ففعلوا ذلك، وتقدموا إلى الأسد؛ فقال الغراب: قد احتجت أيها الملك إلى ما يقويك؛ ونحن أحق أن نهب أنفسنا لك: فإنا بك نعيش؛ فإذا هلكت فليس لأحدٍ منا بقاءٌ عندك، ولا لنا في الحياة من خيرةٍ؛ فليأكلني الملك: فقد طبت بذلك نفساً. فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت؛ فلا خير للملك في أكلك؛ وليس فيك شبعٌ. قال ابن آوى لكن أنا أشبع الملك، فليأكلني: فقد رضيت بذلك، وطبت عنه نفساً. فرد عليه الذئب والغراب بقولهما: إنك لمنتنٌ قذرٌ. قال الذئب: إني لست كذلك، فليأكلني الملك، فقد سمحت بذلك، وطبن عنه نفساً؛ فاعترضه الغراب وابن آوى وقالا: قد قالت الأطباء: من أراد قتل نفسه فليأكل لحم ذئبٍ. فظن الجمل أنه إذا عرض نفسه على الأكل، التمسوا له عذراً كما التمس بعضهم لبعضٍ الأعذار، فيسلم ويرضى الأسد عنه بذلك، وينجو من المهالك. فقال: لكن أنا في للملك شبعٌ وريٌ؛ ولحمي طيبٌ هنيٌ، وبطني نظيفٌ، فليأكلني الملك، ويطعم أصحابه وخدمه: فقد رضيت بذلك، وطابت نفسي عنه، وسمحت به. فقال الذئب والغراب وابن آوى: لقد صدق الجمل وكرم؛ وقال ما عرف.
ثم إنهم وثبوا عليه فمزقوه.م إنهم وثبوا عليه فمزقوه.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنه إن كان أصحاب الأسد قد اجتمعوا على هلاكي فإني لست أقدر أن أمتنع منهم، ولا أحترس؛ وإن كان رأي الأسد لي على غير ما هم من الرأي في، فلا ينفعني ذلك، ولا يغني عني شيئاً. وقد يقال: خير السلاطين من عدل في الناس. ولو أن الأسد لم يكن في نفسه لي إلا الخير والرحمة، لغيرته كثرة الأقاويل: فإنها إذا كثرت لم تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة. ألا ترى الماء ليس كالقول؛ وأن الحجر لم يلبث حتى يثقبه ويؤثر فيه. وكذلك القول في الإنسان. قال دمنة: فماذا تريد أن تصنع الآن? قال شتربة: ما أرى إلا الاجتهاد والمجاهدة بالقتال: فإنه ليس للمصلي في صلاته، ولا للمتصدق في صدقته، ولا للورع في ورعه من الأجر ما للمجاهد عن نفسه، إذا كانت مجاهدته على الحق. قال دمنة: لا ينبغي لأحد أن يخاطر بنفسه، وهو يستطيع غير ذلك، ولكن ذا الرأي جاعل القتال آخر الحيل؛ وبادئٍ قبل ذلك بما استطاع من رفقٍ وتمحلٍ. وقد قيل: لا تحقرن العدو الضعيف المهين، ولا سيما إذا كان ذا حيلةٍ ويقدر على الأعوان؛ فكيف بالأسد على جراءته وشدته? فإن من حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى قال شتربة: وكيف كان ذلك? قال دمنة: زعموا أن طائراً من طيور البحر يقال له الطيطوى كان وطنه على ساحل البحر، ومعه زوجةٌ له، فلما جاء أوان تفريخها قالت الأنثى للذكر: لو التمسنا مكاناً حريزاً نفرخ فيه: فإني أخشى من وكيل البحر إذا مد الماء أن يذهب بفراخنا. فقال لها: أفرخي مكانك: فإنه موافق لنا؛ والماء والزهر منا قريبٌ. قالت له: يا غافل ليحسن نظرك: فإن أخاف وكيل البحر أن يذهب بفراخنا. فقال لها أفرخي مكانك: فإنه لا يفعل ذلك فقالت له: ما أشد تعنتك ! أما تذكر وعيده وتهديده إياك? ألا تعرف نفسك وقدرك? فأبى أن يطيعها. فلما أكثرت عليه ولم يسمع قولها، قالت له: إن من لم يسمع قول الناصح يصيبه ما أصاب السلحفاة حين لم تسمع قول البطتين. قال الذكر: وكيف كان ذلك? قالت الأنثى: زعموا أن غديراً كان عنده عشبٌ، وكان فيه بطتان وكان في الغدير سلحفاةٌ، بينها وبين البطتين مودةٌ وصداقةٌ. فاتفق أن غيض ذلك الماء؛ فجاءت البطتان لوداع السلحفاة، وقالتا: السلام عليك فإننا ذاهبتان عن هذا المكان لأجل نقصان الماء عنه. فقالت: إنما يبين نقصان الماء على مثلي: فإني كالسفينة لا أقدر على العيش إلا بالماء. فأما أنتما فتقدران على العيش حيث كنتما. فاذهبا بي معكما . قالتا لها: نعم. قالت: كيف السبيل إلى حملي? قالتا: نأخذ بطرفي عودٍ، وتتعلقين بوسطه؛ ونطير بك في الجو. وإياك، إذا سمعت الناس يتكلمون، أن تنطقي. ثم أخذتاها فطارتا بها في الجو. فقال الناس: عجبٌ: سلحفاة بين بطتين، قد حملتاها. فلما سمعت ذلك قالت: فقأ الله أعينكم أيها الناس، فلما فتحت فاها بالنطق وقعت على الأرض فماتت. قال الذكر: قد سمعت مقالتك؛ فلا تخافي وكيل البحر. فلما مد الماء ذهب بفراخها. فقالت الأنثى: قد عرفت في بدء الأمر أن هذا كائنٌ. قال الذكر: سوف أنتقم منه. ثم مضى إلى جماعة الطير فقال لهن: إنكن أخواتي وثقاتي: فأعنني. قلن: ما تريد أن نفعل? قال: تجتمعن وتذهبن معي إلى سائر الطير، فنشكو إليهن ما لقيت من وكيل البحر؛ ونقول لهن: إنكن طيرٌ مثلنا: فأعننا. فقالت له جماعة الطير: إن العنقاء هي سيدتنا وملكتنا: فاذهب بنا إليها حتى نصيح بها، فنظهر لنا؛ فنشكو إليها ما نالك من وكيل البحر؛ ونسألها أن تنتقم لنا بقوة ملكها. ثم إنهن ذهبن إليها من الطيطوى، فستغثنها؛ وصحن بها؛ فتراءت لهن فأخبرنها بقصتهن؛ وسألنها أن تسير معهن إلى محاربة وكيل البحر، فأجابتهن إلى ذلك. فلما علم وكيل البحر أن العنقاء قد قصدته في جماعة الطير خاف من محاربة ملكٍ لا طاقة له به. فرد فراخ الطيطوى؛ وصالحه فرجعت العنقاء عنه.
وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم أن القتال مع الأسد لا أراه لك رأياً. قال شتربة: فما أنا بمقاتل الأسد، ولا ناصب له العداوة سراً ولا علانيةً لا متغيرٍ له عما كنت عليه، حتى يبدو لي منه ما أتخوف فأغالبه. فكره دمنة قوله، وعلم أن الأسد إن لم ير من الصور العلامات التي ذكرها له اتهمه وأساء به الظن. فقال دمنة لشتربة: اذهب إلى الأسد فستعرف حين ينظر إليك ما يريد منك. قال شتربة: وكيف أعرف ذلك? قال دمنة: سترى الأسد حين تدخل عليه مقعياً على ذنبه، رافعاً صدره إليك، ماداً بصره نحوك، قد صر أذنيه وفغر فاه، واستوى للوثبة. قال شتربة: إن رأيت هذه العلامات من الأسد عرفت صدقك في قولك. ثم إن دمنة لما فرغ من حمل الأسد على الصور، والثور على الأسد توجه إلى كليلة. فلما التقيا، قال كليلة: إلام انتهى عملك الذي كنت فيه? قال دمنة: قريبٌ من الفراغ على ما أحب وتحب. ثم إن كليلة ودمنة انطلقا جميعاً ليحضرا قتال الأسد والثور، وينظرا ما يجري بينهما، ويعاينا ما يئول إليه أمرهما. وجاء شتربة، فدخل على الأسد، فرآه مقعياً كما وصفه له دمنة، فقال: ما صاحب السلطان إلا كصاحب الحية التي في مبيته ومقيله، فلا يدري متى تهيج به. ثم إن الأسد نظر إلى الثور فرأى الدلالات التي ذكرها له دمنة: فلم يشك أنه جاء لقتاله. فواثبه، ونشأ بينهما الحرب، واشتد قتال الثور والأسد، وطال، وسالت بينهما الدماء. فلما رأى كليلة أن الأسد قد بلغ منه ما قد بلغ. قال لدمنة: أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك في تدبيرك! قال دمنة: وما ذاك? قال كليلة: جرح الأسد وهلك الثور. وإن أخرق الخرق من حمل صاحبه على سوء الخلق والمبارزة والقتال، وهو يجد إلى غير ذلك سبيلاً. وإن العاقل يدبر الأشياء ويقيسها قبل مباشرتها: فما رجا أن يتم له منها أقدم عليه، وما خاف أن يتعذر عليه منها انحرف عنه، ولم يلتفت إليه. وإني لأخاف عليك عاقبة بغيك هذا: فإنك قد أحسنت القول ولم تحسن العمل. أين معاهدتك إياي أنك لا تضر بالأسد في تدبيرك? وقد قيل: لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الأمن إلا مع السرور.
واعلم أن الأدب يذهب عن العاقل الطيش، ويزيد الأحمق طيشاً؛ كما أن النهار يزيد كل ذي بصر نظراً، ويزيد الخفاش سوء النظر.
وقد أذكرني أمرك شيئاً سمعته، فإن يقال: إن السلطان إذا كان صالحاً، ووزراؤه وزراء سوءٍ، منعوا خيره، فلا يقدر أحدٌ أن يدنو منه. ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح: لا يقدر أحدٌ أن يتناوله، وإن كان إلى الماء محتاجاً. وأنت يا دمنة أردت ألا يدنو من الأسد أحد سواك. وهذا أمرٌ لا يصح ولا يتم أبداً. وذلك للمثل المضروب: إن البحر بأمواجه، والسلطان بأصحابه. ومن الحمق الحرص على التماس الإخوان بغير الوفاء لهم، وطلب الآخرة بالرياء، ونفع النفس بغير الضر. وما عظتي وتأديبي إياك إلا كما قال الرجل للطائر: لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم، ولا تعالج تأديب من لا يتأدب. قال دمنة: وكيف كان ذلك? قال كليلة: زعموا أن جماعةً من القردة كانوا سكاناً في جبلٍ، فالتمسوا في ليلةٍ باردةٍ ذات رياح وأمطارٍ نادراً، فلم يجدوا، فرأوا يراعةً تطير كأنها شرارة نارٍ، فظنوها ناراً، وجمعوا حطباً كثيراً فألقوه عليها، وجعلوا ينفخون طمعاً أن يوقدوا ناراً يصطلون بها من البرد. وكان قريباً منهم طائر على شجرةٍ، ينظرون إليه وينظر إليهم، وقد رأى ما صنعوا، فجعل يناديهم ويقول: لا تتعبوا فإن الذي رأيتموه ليس بنارٍ. فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم لنهاهم عما هم فيه، فمر به رجلٌ فعرف ما عزم عليه. فقال له: لا تلتمس تقومي ما لا يستقيم: فإن الحجر المانع الذي لا ينقطع لا تجرب عليه السيوف، والعود الذي لا نحني لا يعمل منه القوس: فلا تتعب. فأبى الطائر أن يطيعه، وتقدم إلى القردة ليعرفهم أن البراعة ليسن بناءٍ. فتناوله بعض القردة فضرب به الأرض فمات. فهذا مثلي معك في ذلك. ثم قد غلب عليك الخبّ والفجور ، وهما خلتا سوءٍ، والخصب شرهما عاقبةً. ولهذا مثل. قال دمنة: وما ذلك المثل?
قال كليلة: زعموا أن خباً ومغفلاً اشتركا في تجارةٍ وسافرا، فبينما هما في الطريق، إذ تخلف المغفل لبعض حاجته، فوجد كيساً فيه ألف دينار، فأخذه؛ فأحس به الخب، فرجعا إلى بلدهما؛ حتى إذا دنوا من المدينة قعدا لاقتسام المال. فقال المغفل: خذ نصفه وأعطني نصفه؛ وكان الخب قد قرر في نفسه أن يذهب بالألف جميعه. فقال له: لا نقتسم، فإن الشركة والمفاوضة أقرب إلى الصفاء والمخالطة؛ ولكن آخذ نفقةً، وتأخذ مثلها؛ وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة: فهو مكانٌ حريزٌ. فإذا احتجنا جئنا أنا وأنت فنأخذ حاجتنا منه؛ ولا يعلم بموضعنا أحدٌ. فأخذا منه يسيراً، ودفنا الباقي في أصل دوحةٍ، ودخلا البلد. ثم إن الخب خالف المغفل إلى الدنانير فأخذها، وسوى الأرض كما كانت. وجاء المغفل بعد ذلك بأشهر فقال للخب: قد احتجت إلى نفقةٍ فانطلق بنا نأخذ حاجتنا؛ فقام الخب معه وذهبا إلى المكان فحفرا، فلم يجدا شيئاً. فأقبل الخب على وجهه يلطمه يقول: لا تغتر بصحبة صاحب: خالفتني إلى الدنانير فأخذتها. فجعل المغفل يحلف ويلعن آخذها ولا يزداد الحب إلا شدة في اللطم. وقال: ما أخذها غيرك. وهل شعر بها أحدٌ سواك? ثم طال ذلك بينهما، فترافعا إلى القاضي، فاقتص القاضي قصتهما، فادعى الخب أن المغفل أخذها، وجحد المغفل. فقال للخب: ألك على دعواك بينة? قال: نعم الشجرة التي كانت الدنانير عندها تشهد لي أن المغفل أخذها. وكان الخب قد أمر أباه أن يذهب فيتوارى في الشجرة بحيث إذا سئلت أجاب. فذهب أبو الخب فدخل جوف الشجرة. م إن القاضي لما سمع ذلك من الخب أكبره، وانطلق هو وأصحابه والخصب والمغفل معه؛ حتى وافى الشجرة؛ فسألها عن الخبر. فقال الشيخ من جوفها: نعم المغفل أخذها. فلما سمع القاضي ذلك اشتد تعجبه. فدعا بحطب وأمر أن تحرق الشجرة. فأضرمت حولها النيران فاستغاث أبو الخب عند ذلك. فأخرج وقد أشرف على الهلاك. فسأله القاضي عن القصة فأخبره بالخبر؛ فأوقع بالخب ضرباً، وبأبيه صفعاً، وأركبه مشهوراً ، وغرّم الخب الدنانير فأخذها وأعطاها المغفل.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعمل أن الحب والخديعة ربما كان صاحبها هو المغبون. وإنك يا دمنة جامعٌ للخب والخديعة والفجور. وإني أخشى عليك ثمرة عملك، مع أنك لست بناجٍ من العقوبة: لأنك ذو لونين ولسانين. وإنما عذوبة ماء الأنهار ما لم تبلغ إلى البحار. وصلاح أهل البيت ما لم يكن فيهم المفسد. وإنه لا شيء أشبه بك من الحية ذات اللسانين التي فيها السم: فإن قد يجري من لسانك كسمها. وإني لم أزل لذلك السم من لسانك خائفاً، ولما يحل بك متوقعاً، والمفسد بين الإخوان والأصحاب كالحية يربيها الرجل ويطعمها ويمسحها ويكرمها، ثم لا يكون له منها غير اللدغ. وقد يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم، واسترسل إليهما، وإياك ومفارقتهما؛ واصحب الصاحب إذا كان عاقلاً كريماً أو عاقلاً غير كريمٍ: فالعاقل الكريم كاملٌ، والعاقل غير الكريم أصحبه، وإن كان غير محمود الخليقة، وأحذر من سوء أخلاقه وانتفع بعقله، والكريم غير العاقل، الزمه ولا تدع مواصلته، وإن كنت لا تحمد عقله، وانتفع بكرمه، وانفعه بعقلك؛ والقرار كل القرار من اللئيم الأحمق. وإني بالفرار منك لجديرٌ. وكيف يرجو إخوانك عندك كرماً ووداً وقد صنعت بملكك الذي أكرمك وشرفك ما صنعت? وإن مثلك مثل التاجر الذي قال: إن أرضاً تأكل جرذانها مائة منًّ حديداً، ليس بمستنكر على بزاتها أن تختطف الأفيال. قال دمنة: وكيف كان ذلك?
قال كليلة: زعموا أنه كان بأرض كذا تاجرٌ، فأراد الخروج إلى بعض الوجوه لابتغاء الرزق؛ وكان عنده مائة من حديداً؛ فأودعها رجلاً من إخوانه، وذهب في وجهه. ثم قدم بعد ذلك بمدةٍ؛ فجاء والتمس الحديد، فقال له: إنه قد أكلته الجرذان. فقال: قد سمعت أنه لاشيء أقطع من أنيابها للحديد. ففرح الرجل بتصديقه على ما قال وادعى. ثم إن التاجر خرج، فلقي ابناً للرجل؛ فأخذه وذهب به إلى منزله؛ ثم رجع إليه الرجل من الغد فقال له: هل عندك علم بابني: فقال له التاجر: إني لما خرجت من عندك بالأمس، رأيت بازياً قد اختطف صبياً، ولعله ابنك. فلطم الرجل على رأسه وقال: يا قوم هل سمعتم أو رأيتم أن البزاة تخطف الصبيان? فقال: نعم. وإن أرضاً تأكل جرذانها مائة منً من حديداً ليس بعجب أن تختطف بزاتها الفيلة. قال له الرجل: أنا أكلت حديدك وهذا ثمنه. فاردد على ابني. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك إذا غدرت بصاحبك فلا شك أنك بمن سواه أغدر؛ وأنه إذا صاحب أحد صاحباً وغدر بمن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موضعٌ: فلا شيء أضيع من مودةٍ تمنح من لا وفاء له، وحباءٍ يصطنع عند من لا شكر له، وأدبٍ يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر: كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً، وإذا مرت بالنتن حملت نتناً، وقد طال وثقل كلامي عليك.
فانتهى كليلة من كلامه إلى هذا المكان وقد فرغ الأسد من الثور، ثم فكر في قتله بعد أن قتله وذهب عنه الغضب. وقال: لقد فجعني شتربة بنفسه؛ وقد كان ذا عقلٍ ورأيٍ وخلقٍ كريمٍ، ولا أدري لعله كان بريئاً أو مكذوباً عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه، وتبين ذلك في وجهه؛ وبصر به دمنة، فترك محاورة كليلة، وتقدم إلى الأسد فقال له: ليهنئك الظفر إذ أهلك الله أعداءك. فماذا يحزنك أيها الملك? قال: أنا حزينٌ على عقل شتربة ورأيه وأدبه? قال له دمنة: لا ترحمه أيها الملك: فإن العاقل لا يرحم من يخافه. وإن الرجل الحازم ربما أبغض الرجل وكرهه، ثم قربه وأدناه: لما يعلم عنده من الغناء والكفاية، فعل الرجل المتكاره على الدواء الشنيع رجاء منفعته. وربما أحب الرجل، وعز عليه، فأقصاه وأهلكه، مخافة ضرره؛ كالذي تلدغه الحية في إصبعه فيقطعها، ويتبرأ منها مخافة أن يسر سمها إلى بدنه. فرضي الأسد بقول دمنة. ثم علم بعد ذلك بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر قتلةٍ.
باب الفحص عن أمر دمنة
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد حدثتني عن الواشي الماهر المحتال، كيف يفسد بالنميمة المودة الثابتة بين المتحابين. فحدثني حينئذٍ بما كان من حالة دمنة وما آل أمره إليه بعد قتل شتربة، وما كان من معاذيره عند الأسد وأصحابه حين راجع الأسد رأيه في الثور، وتحقق النميمة من دمنة، وما كانت حجته التي احتج بها؛ قال الفيلسوف: أنا وجدت في حديث دمنة أن الأسد حين قتل شتربة ندم على قتله، وذكر قديم صحبته وجسيم خدمته، وأنه كان أكرم أصحابه عليه. وأخصهم منزلةً لديه، وأقربهم وأدناهم إليه؛ وكان يواصل له المشورة دون خواصه. وكان من أخص أصحابه عنده بعد الثور النمر. فاتفق أنه أمسى لنمر ذات ليلةٍ عند الأسد؛ فخرج من عنده جوف الليل يردي منزله، فاجتاز على منزل كليلة ودمنة. فلما انتهى إلى الباب سمع كليلة يعاتب دمنة على ما كان منه، ويلومه على النميمة واستعمالها؛ خصوصاً مع الكذب والبهتان في حق الخاصة. وعرف النمر عصيان دمنة وترك القبول له. فوقف يستمع ما يجري بينهما فكان فيما قال كليلة لدمنة: لقد ارتكبت مركباً صعباً، ودخلت مدخلاً ضيقاً، وجنيت على نفسك جنايةً موبقةً، وعاقبتها وخيمةٌ؛ وسوف يكون مصرعك شديداً، إذا انكشف للأسد أمرك، واطلع عليه، وعرف غدرك ومحالك ، وبقيت لا ناصر لك؛ فيجتمع عليك الهوان والقتل، مخافة شرك، وحذراً من غوائلك؛ فلست بمتخذك بعد اليوم خليلاً، ولا مفشٍ إليك سراً؛ لأن العلماء قد قالوا: تباعد عمن لا رغبة فيه. وأنا جدير بمباعدتك، والتماس الخلاص لي مما وقع في نفس الأسد من هذا الأمر.
فلما سمع النمر هذا من كلامهما قفل راجعاً، فدخل على أم الأسد؛ فأخذ عليها العهود ومواثيق أن لا تفشي ما يسر إليها، فعاهدته على ذلك فأخبرها بما سمع من كلام كليلة ودمنة. فلما أصبحت دخلت على الأسد، فوجدته كئيباً حزيناً مهموماً: لما ورد عليه من قتل شتربة. فقالت له: ما هذا الهم الذي قد أخذ منك، وغلب عليك? قال: يحزنني قتل شتربة؛ إذ تذكرت صحبته ومواظبته على خدمتي، وما كنت أسمع من مناصحته. قالت أم الأسد: إن أشد ما شهد امرؤٌ بلا علم ولا يقين? ولولا ما قالت العلماء في إذاعة الأسرار وما فيها من الإثم والشنار ، لذكرت لك ولأخبرتك بما علمت. قال الأسد: إن أقوال العلماء لها وجوهٌ كثيرةٌ، ومعانٍ مختلفةٌ. وإني لأعلم صواب ما تقولين: وإن كان عندك رأي فلا تطويه عني؛ وإن كان قد أسر إليك أحدٌ سراً فأخبريني به، وأطلعيني عليه، وعلى جملة الأمر. فأخبرته بجميع ما ألقاه إليها النمر من غير أن تخبره باسمه. وقال: إني لم أجهل قول العلماء في تعظيم العقوبة وتشديدها، وما يدخل على الرجل من العار في إذاعة الأسرار؛ ولكني أحببت أن أخبرك بما فيه المصلحة لك؛ وإن وصل خطؤه وضرره إلى العامة فإصرارهم على خيانة الملك مما لا يدفع الشر عنهم، وبه يحتج السفهاء، ويستحسنون ما يكون من أعمالهم القبيحة. وأشد معارهم إقدامهم على ذي الحزم. فلما قضت أم الأسد هذا الكلام، استدعى أصحابه وجنده فأدخلوا عليه. ثم أمر أن يؤتى بدمنة. فلما وقف بين يدي الأسد، ورأى ما هو عليه من الحزن والكآبة، التفت إلى بعض الحاضرين فقال: مالذي حدث? وما الذي أحزن الملك? فالتفتت أم الأسد إليه وقالت: قد أحزن الملك بقاؤك ولو طرفة عين؛ ولن يدعك بعد اليوم حياً! قال دمنة: ما ترك الأول للآخر شيئاً: لأنه يقال: أشد الناس في توقي الشر، يصيبه الشر قبل المستسلم له. فلا يكونن الملك وخاصته وجنوده المثل السوء؛ وقد علمت أنه قد قيل: من صحب الأشرار، وهو يعلم حالهم، كان أذاه من نفسه: ولذلك انقطعت النساك بأنفسها عن الخلق، واختارت الوحدة على المخالطة، وحب العمل لله على حب الدنيا وأهلها. ومن يجزي بالخير خيراً وبالإحسان إحساناً إلا الله? ومن طلب الجزاء على الخير من الناس. وإن أحق ما رغبت فيه رعية الملك هو محاسن الأخلاق ومواقع الصواب وجميل السير؛ وقد قالت العلماء: من صدق ما ينبغي أن يكذب، وكذب ما ينبغي أن يصدق، خرج من مصاف العقلاء، وكان جديراً بالازدراء. فينبغي ألا يعجل الملك في أمري بشبهةٍ. ولست أقول هذا كراهةً للموت: فإنه وإن كان كريهاً، لا منجى منه. وكل حيٌ هالكٌ. ولو كانت لي مائة نفسٍ وأعلم أن هوى الملك في إتلافهن، لطبت له بذلك نفساً.
فقال بعض الجند: لم ينطق بهذا لحبه بالملك، ولكن لخلاص نفسه، والتماس العذر لها. فقال لها دمنة: ويلك! وهل علي في التماس العذر لنفسي عيبٌ? وهل أحدٌ أقرب إلى الإنسان من نفسه? وإذا لم يلتمس لها العذر، فمن يلتمسه? لقد ظهر منك ما لم تكن تملك كتمانه من الحسد والبغضاء؛ ولقد عرف من سمع منك ذلك أنك لا تحب لأحدٍ خيراً؛ وأنك عدو نفسك، فمن سواهاً بالأولى. فمثلك لا يصلح أن يكون مع البهائم، فضلاً عن أن يكون مع الملك، وأن يكون ببابه. فلما أجابه دمنة بذلك، خرج مكتئباً حزيناً مستحياً. فقالت أم الأسد لدمنة: لقد عجبن منك، أيها المحتال، في قلة حيائك، وكثرة وقاحتك، وسرعة جوابك لمن كلمك. قال دمنة: لأنك تنظرين إلى بعينٍ واحدةٍ، وتسمعين مني بأذنٍ واحدةٍ، مع أن شقاوة جدي قد زوت عني كل شيء، حتى لقد سعوا إلى الملك بالنميمة علي، ولقد صار من بباب الملك لاستخفافهم به، وطول كرامته إياهم، وما هم فيه من العيش والنعمة، لا يدرون في أي وقت ينبغي لهم الكلام، ولا متى يجب عليهم السكوت. قالت: ألا تنظرون إلى هذا الشقي، مع عظم ذنبه، كيف يجعل نفسه بريئاً كمن لا ذنب له? قال دمنة: إن الذين يعملون غير أعمالهم ليسوا على شيء؛ كالذي يضع الرماد موضعاً ينبغي أن يضع فيه الرمل؛ ويستعمل فيه السرجين ، والرجل الذي يلبس لباس المرأة، والمرأة التي تلبس لباس الرجل، والضيف الذي يقول: أنا رب البيت، والذي ينطق بين الجماعة بما لا يسأل عنه. وإنما الشقي من لا يعرف الأمور ولا أحوال الناس لا يقدر على دفع الشر عن نفسه، ولا يستطيع ذلك. قالت أم الأسد: أتظن أيها الغادر المحتال بقولك هذا أنك تخدع الملك، ولا يسجنك? قال دمنة: الغادر الذي لا يأمن عدوه مكره، وإذا استمكن من عدوه قتله على غير ذنب. قالت أم الأسد: أيها الغادر الكذوب، أتظن أنك ناجٍ من عاقبة كذبك? وأن محالك هذا ينفعك مع عظم جرمك? قال دمنة: الكذوب إلي يقول ما لم يكن، ويأتي بما لم يقل ولم يفعل، وكلامي واضحٌ مبينٌ. قالت أم الأسد: العلماء منكم هم الذين يوضحون أمره بفضل الخطاب. ثم نهضت فخرجت. فدفع الأسد دمنة إلى القاضي، فأمر بحبسه، فألقي في عنقه حبلٌ، وانطلق به إلى السجن. فلما انتصف الليل أخبر كليلة أن دمنة في الحبس. فأتاه مستخفياً؛ فلما رآه وما هو عليه من ضيق القيود، وخرج المكان، بكى، وقال له: ما وصلت إلى ما وصلت إليه إلا لاستعمالك الخديعة والمكر، وإضرابك عن العظة؛ ولكن لم يكن لدي بدٌ فيما مضى من إنذارك والنصيحة لك والمسارعة إليك في خلوص الرغبة فيك: فإنه لكل مقامٍ مقالٌ؛ ولكل موضعٍ مجالٌ.
ولو كنت قصرت في عظتك حين كنت في عافيةٍ، لكنت اليوم شريكك في ذنبك؛ غير أن العجب دخل منك مدخلاً قهر رأيك، وغلب على عقلك؛ وكنت أضرب لك الأمثال كثيراً، وأذكرك قول العلماء. وقد قالت العلماء: إن المحتال يموت قبل أجله. قال دمنة: قد عرفت صدق مقالتك. وقد قالت العلماء: لا تجزع من العذاب إذا وقفت منك على خطيئة؛ ولأن تعذب في الدنيا بجرمك، خيرٌ من أن تعذب في الآخرة بجهنم مع الإثم. قال كليلة: قد فهمت كلامك؛ ولكن ذنبك عظيمٌ، وعقاب الأسد شديدٌ أليمٌ. وكان بقربهما في السجن فهدٌ معتقلٌ يسمع كلامهما، ولا يريانه؛ فعرف معاتبة كليلة لدمنة على سوء فعله، وما كان منه؛ وأن دمنة مقرٌ بسوء عمله، وعظيم ذنبه؛ فحفظ المحاورة بينهما، وكتمها ليشهد بها إن سئل عنها. ثم إن كليلة انصرف إلى منزله، ودخلت أم الأسد حين أصبحت على الأسد؛ وقالت له: يا سيد الوحوش، حوشيت أن تنسى ما قلت بالأمس؛ وأنك أمرت به لوقته؛ وأرضيت به رب العباد. وقد قالت العلماء: لا ينبغي للإنسان أن يتوانى في الجد للتقوى؛ بل لا ينبغي أن يدافع عن ذنب الأثيم. فلما سمع الأسد كلام أمه، أمر أن يحضر النمر، وهو صاحب القضاء. فلما حضر قال له وللجوّاس العادل: اجلسا في موضع الحكم، وناديا في الجند صغيرهم وكبيرهم أن يحضروا وينظروا في حال دمنة، ويبحثوا في شأنه، ويفحصوا عن ذنبه، ويثبتوا قوله وعذره في كتب القضاء؛ وارفعا إلى ذلك يوماً فيوماً. فلما سمع ذلك النمر والجواس العادل وكان هذا الجواس عم الأسد، قالا: سمعاً وطاعةً لما أمر الملك. وخرجا من عنده؛ فعملا بمقتضى ما أمرهما به؛ حتى إذا مضى من اليوم الذي جلسوا فيه ثلاث ساعات، أمر القاضي أن يؤتى بدمنة؛ فأتي به، فأوقف بين يديه، والجماعة حضور. فلما استقربه المكان نادى سيد الجمع بأعلى صوته: أيها الجمع. إنكم قد علمتم أن سيد السباع لم يزل منذ قتل شتربة خائر النفس، كثير الهم والحزن، يرى أنه قد قتل شتربة بغير ذنب؛ وأنه أخذه بكذب دمنة ونميمته. وهذا القاضي قد أمر أن يجلس مجلس القضاء، ويبحث عن شأن دمنة. فمن علم منكم شيئاً في أمر دمنة من خيرٍ أو شرٍ، فليقل ذلك، وليتكلم به على رءوس الجمع والأشهاد، ليكون القضاء في أمره أولى، والعجلة من الهوى، ومتابعة الأصحاب على الباطل ذل. فعندها قال القاضي: أيها الجمع اسمعوا قول سيدكم، ولا تكتموا ما عرفتم من أمره؛ واحذروا في الستر عليه ثلاث خصالٍ: إحداهن، وهي أفضلهن، ألا تزدروا فعله، ولا تعدوه يسيراً: فمن أعظم الخطايا قتل البريء الذي لا ذنب له بالكذب والنميمة؛ ومن علم من أمر هذا الكتاب الذي اتهم البريء بكذبه ونميمته شيئاً، فستر عليه فهو شريكه في الإثم والعقوبة. والثانية إذا اعترف المذنب بذنبه، كان أسلم له، وأحرى بالملك وجنده أن يعفوا عنه ويصفحوا. والثالثة ترك مراعاة أهل الذم والفجور، وقطع أسباب مواصلاتهم ومودتهم عن الخاصة والعامة؛ فمن علم من أمر هذا المحتال شيئاً، فليتكلم به على رءوس الأشهاد ممن حضر، ليكون ذلك حجةً عليه؛ وقد قيل: إنه من كتم شهادة ميتٍ، ألجم بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة؛ فليقل كل واحد منكم ما علم. فلما سمع ذلك الجمع كلامه، أمسكوا عن القول. فقال دمنة: ما يسكتكم? تكلموا بما علمتم؛ واعلموا أن لكل كلمة جواباً. وقد قالت العلماء: من يشهد بما لا ي، ويقول ما لا يعلم، أصابه ما أصاب الطبيب الذي قال لما لا يعلمه: إني أعلمه. قالت الجماعة: وكيف كان ذلك?
قال دمنة: زعموا أنه كان في بعض المدن طبيب له رفق وعلم، وكان ذا فطنة فيما يجري على يديه من المعالجات، فكبر ذلك الطبيب وضعف بصره. وكان لملك تلك المدينة ابنة قد زوجها لابن أخ له، فعرض لها ما يعرض للحوامل من الأوجاع. فجيء بهذا الطبيب، فلما حضر، سأل الجارية عن وجعها وما تجد، فأخبرته، فعرف دائها ودواءها، وقال: لو كنت أبصر، لجمعت الأخلاط على معرفتي بأجناسها، ولا أثق في ذلك بأحد غيري. وكان في المدينة رجل سفيه، فبلغه الخبر، فأتاهم وادعى علم الطب، وأعلمهم انه خبير بمعرفة أخلاط الأدوية والعقاقير، عارف بطبائع الأدوية المركبة والمفردة، فأمره الملك أن يدخل خزانة الأدوية فيأخذ من أخلاط الدواء حاجته، فلما دخل السفيه الخزانة، وعرضت عليه الأدوية، ولا يدري ما هي، ولا له بها معرفة، أخذ في جملة ما أخذ منها صرة فيها سمّ قاتل لوقته، وخلطه في الأدوية، ولا علم له به، ولا معرفة عنده بجنسه. فما تمت أخلاط الأدوية، سقى الجارية منه، فماتت لوقتها. فلما عرف الملك ذلك، دعا بالسفيه، فسقاه من ذلك الدواء، فمات من ساعته. وإنما ضربت لكم هذا المثل لتعلموا ما يدخل على القائل والعامل من الزلة بالشبه في الخروج عن الحد، فمن خرج منكم عن حده أصابه ما أصاب ذلك الجاهل، ونفسه الملومة.
وقد قالت العلماء: ربما جزى المتكلم بقوله. والكلام بين أيديكم: فانظروا لأنفسكم. فتكلم سيد الخنازير، لإدلاله وتيهه بمنزلته عند الأسد، فقال: يا أهل الشرف من العلماء، اسمعوا مقالتي، وعوا بأحلامكم كلامي، فالعلماء قالوا في شأن الصالحين: إنهم يعرفون بسيماههم، وأنتم معاشر ذوي الاقتدار، بحسن صنع الله لكم، وتمام نعمته لديكم، تعرفون الصالحين بسيماهم وصورهم، وتخبرون بالشيء الصغير، وهاهنا أشياء كثيرة تدل على هذا الشقي دمنة، وتخبر عن شره، فاطلبوها على ظاهر جسمه: لتستيقنوا وتسكنوا إلى ذلك. قال القاضي لسيد الخنازير: قد علمت، وعلم الجماعة الحاضرون، أنك عارف بما في الصور من علامات السوء، ففسر لنا ما تقول، وأطلعنا على ما ترى في صورة هذا الشقي. فأخذ سيد الخنازير يذم دمنة، وقال: إن العلماء قد كتبوا وأخبروا: أنه من كانت عينه اليسرى أصغر من عينه اليمنى وهي لا تزال تختلج، وكان أنفه مائلاً إلى جنبه الأيمن، فهو شقي خبيث. قال له دمنة: شأنك عجب، أيها القذر، ذو العلامات الفاضحة القبيحة، ثم العجب من جرائتك على طعام الملك، وقيامك بين يديه، مع ما بجسمك من القذر والقبح، ومع ما تعرفه أنت ويعرفه غيرك من عيوب نفسك، أفتتكلم في النقي الجسم الذي لا عيب فيه? ولست أنا وحدي أطلع على عيبك، لكن جميع من حضر قد عرف ذلك. وقد كان يحجزني عن إظهاره ما بيني وبينك من الصداقة. فأما إذا قد كذبت عليّ وبهتني في وجهي، وقمت بعداوتي، فقلت ما قلت فيّ بغير علم على رؤوس الحاضرين، فأني أقتصر على إظهار ما أعرف من عيوبك، وتعرف الجماعة، وحق على من عرفك حق معرفتك أن يمنع الملك من استعماله إياك على طعامه، فلو كلّفت أن تعمل الزراعة لكنت جديراً بالخذلان فيها، فالأحرى بك ألاّ تدنو إلى عمل من الأعمال، وألاّ تكون دباغاً ولا حجاماً لعامِّيٍّ فضلاً عن خاصِّ خدمة الملك. قال سيد الخنازير: أتقول لي هذه المقالة، وتلقاني بهذا الملقى? قال دمنة، نعم، وحقاً قلت فيك، وإياك أعني، أيها الأعرج المكسور الأفدع الرِّجلِ، المنفوخ البطن، الأفلح الشفتين، السيءِ المنظر والمخبر. فلما قال ذلك دمنة، تغير وجه سيد الخنازير واستعبر واستحى، وتلجلج لسانه، واستكان وفتر نشاطه. فقال دمنة، حين رأى انكساره وبكاءه: إنما ينبغي أن يطول بكاؤك، إذا اطلع الملك على قذرك وعيوبك فعزلك عن طعامه، وحال بينك وبين خدمته، وأبعدك عن حضرته. ثم إن شغبراً قد جربه فوجد فيه أمانة وصدقاً، فرتبه في خدمته، وأمره أن يحفظ ما يجري بينهم ، ويطلعه على ذلك. فقام الشغبر فدخل على الأسد فحدثه بالحديث كله على جليته. فأمر الأسد بعزل سيد الخنازير عن عمله، وأمر ألا يدخل عليه، ولا يرى وجهه، وأمر بدمنة أن يسجن، وقد مضى من النهار أكثره، ورجع كل واحد منهم إلى منزله.
ثم إن شغبراً يقال له روزبة، كان بينه وبين كليلة إخاء ومودة، وكان عند الأسد وجيهاً، وعليه كريماً، واتفق أن كليلة أخذه الوجد إشفاقاً وحذراً على نفسه وأخيه، فمرض ومات، فانطلق هذا الشغبر إلى دمنة، فأخبره بموت كليلة فبكى وحزن، وقال: ما أصنع بالدنيا بعد مفارقة الأخ الصفى?????! ولكن أحمد الله تعالى حيث لم يمت كليلة حتى أبقى لي من ذوي قرابتي أخاً مثلك: فإني قد وثقت بنعمة الله تعالى وإحسانه إليّ فيما رأيت من اهتمامك بي ومراعاتك لي، وقد علمت أنك رجائي وركني فيما أنا فيه، فأريد من إنعامك أن تنطلق إلى مكان كذا، فتنظر إلى ما جمعته أنا وأخي بحيلتنا وسعينا ومشيئة الله تعالى، فتأتيني به، ففعل الشغبر ما أمره به دمنة. فلما وضع المال بين يديه أعطاه شطره، وقال له: إنك على الدخول والخروج على الأسد أقدر من غيرك، فتفرغ لشأني، واصرف اهتمامك إلي، واسمع ما أذكر به عند الأسد، إذا رفع إليه ما يجري بيني وبين الخصوم، وما يبدو من أم الأسد في حقي، وما ترى من متابعة الأسد لها، ومخالفته إياها في أمري، وأحفظ ذلك كله. فأخذ الشغبر ما أعطاه دمنة وانصرف عنه على هذا العهد. فانطلق إلى منزله فوضع المال فيه. ثم إن الأسد بكّر من الغد فجلس، حتى إذا مضى من النهار ساعتان، استأذن عليه أصحابه فأذن لهم، فدخلوا عليه، ووضعوا الكتاب بين يديه. فلما عرف قولهم وقول دمنة دعا أمه فقرأ عليها ذلك. فلما سمعت ما في الكتاب نادت بأعلى صوتها: إن أنا أغلظت في القول فلا تلومني: فإنك لست تعرف ضرك من نفعك. أليس هذا مما كنت أنهاك عن سماعه: لأنه كلام هذا المجرم المسيء إلينا، الغادر بذمتنا? ثم إنها خرجت مغضبة، وذلك بعين الشغبر الذي أخاه دمنة وبسمعه. فخرج في أثرها مسرعاً، حتى أتى دمنة، فحدثه بالحديث. فبينما هو عنده إذ جاء رسول انطلق بدمنة إلى الجمع عند القاضي. فلما مثل بين يدي القاضي استفتح سيد المجلس فقال: يا دمنة قد أنبأني بخبرك الأمين الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من هذا: لأن العلماء قالوا: إن الله تعالى جعل الدنيا سبباً ومصداقاً للآخرة: لأنها دار الرسل والأنبياء الدالين على الخير الهادين إلى الجنة الداعين إلى معرفة الله تعالى. وقد ثبت شأنك عندنا وأخبرنا عنك من وثقنا بقوله إلا أن سيدنا أمرنا بالعودة في أمرك والفحص عن شأنك وإن كان عندنا ظاهراً بينا. قال دمنة: أراك أيها القاضي لم تتعود العدل في القضاء وليس في عدل الملك دفع المظلومين ومن لا ذنب له إلى قاض غير عادل بل المخاصمة عنهم والذود. فكيف ترى أن أقتل ولم أخاصم? وتعجل ذلك موافقة لهواك ولم تمض بعد ذلك ثلاثة أيام. ولكن صدق الذي قال: إن الذي تعود عمل البر هين عليه عمله وإن أضربه. قال القاضي: إن نجد في كتب الأولين: أن القاضي ينبغي له أن يعرف عمل المحسن والمسيء ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فإذا ذهب إلى هذا ازداد المحسنون حرصاً على الإحسان والمسيؤون إجتناباً للذنوب. والرأي لك يا دمنة أن تنظر الذي وقعت فيه وتعترف بذنبك وتقر به وتتوب. فأجابه دمنة: إن صالحي القضاة لا يقطعون بالظن ولا يعملون به لا في الخاصة ولا في العامة: لعلمهم أن الظن لا يغني من الحق شيئا. وأنتم إن ظننتم أني مجرم فيما فعلت فإني أعلم بنفسي منكم وعلمي بنفسي يقين لاشك فيه وعلمكم بي غاية الشك وإنما قبح أمري عندكم أني سعيت بغيري فما عذري عندكم إذا سعيت بنفسي كاذبا عليها فأسلمتها للقتل والعطب على معرفة مني ببراءتي وسلامي مما قرفت به? ونفسي لأعظم الأنفس على حرمة وأوجبها حقاً. فلو فعلت هذا بأقصاكم وأدناكم، لما وسعني في ديني، ولا حسن بي في مروءتي، ولا حق لي أن أفعله فكيف أفعله بنفسي? فأكفف أيها القاضي عن هذه المقالة: فإنها إن كانت منك نصيحة فقد أخطأت موضعها وإن كانت خديعة فإن أقبح الخداع ما نظرته وعرفت أنه من غير أهله مع أن الخداع والمكر ليسا من أعمال صالحي القضاة ولا تقاة الولاة واعلم أن قولك مما يتخذه الجهال والأشرار سنة يقتدون بها: لأن أمور القضاة يأخذ بصوابها أهل الصواب وبخطئها أهل الخطأ والباطل والقليلو الورع وأنا خائف عليك أيها القاضي من مقالتك هذه أعظم الرزايا والبلايا وليس من البلاء و المصيبة أنك لم تزل في نفس الملك والجند والخاصة والعامة فاضلاً في رأيك مقنعاً في عدلك مرضياً في حكمك وعفافك وفضلك وإنما البلاء كيف أنسيت ذلك في أمري. فلما سمع القاضي ذلك من لفظ دمنة نهض فرفعه إلى الأسد على وجهه فنظر في الأسد ثم دعا أمه فعرضه عليها. فقالت حين تدبرت كلام دمنة للأسد: لقد صار اهتمامي بما أتخوف من احتيال دمنة لك بمكره ودهائه حتى يقتلك أو يفسد عليك أمرك أعظم من اهتمامي بما سلف من ذنبه إليك في الغش والسعاية حتى قتلت صديقك. بغير ذنب. فوقع قولها في نفسه. فقال لها: أخبريني عن الذي أخبرك عن دمنة بما أخبرك فيكون حجة لي في قتل دمنة. فقالت: إني لأكره أن أفشي سر استكتمنيه، فلا يهنئني سروري بقتل دمنة إذا تذكرت أني استظهرت عليه بركوب ما نهت عنه العلماء من كشف السر ولكني أطالب الذي استودعنيه أن يجعلني في حل من ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما سمع منه. ثم انصرفت وأرسلت إلى النمر وذكرت له ما يحق عليه من حسن معاونته الأسد على الحق وإخراج نفسه من الشهادة التي لا يكتمها مثله مع ما يحق عليه من نصر المظلومين وتثبيت حجة الحق في الحياة والممات: فإنه قد قالت العلماء: من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة. فلم تزل به حتى قام فدخل على الأسد فشهد عنده بما سمع من إقرار دمنة. فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد المحبوس الذي سمع إقرار دمنة وحفظه إلى الأسد فقال: إن عندي شهادة. فأخرجوه. فشهد على دمنة بما سمع من إقراره. فقال لهما الأسد: ما منعكما أن تقوما بشهادتكما وقد علمتما أمرنا واهتمامنا بالفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما: قد علمنا أن شهادة الواحد لا توجب حكماً فكرهنا التعرض لغير ما يمضي به الحكم حتى إذا شهد أحدنا قام الآخر بشهادته فقبل الأشد قولهما. وأمر بدمنة أن يقتل في حبسه: فقتل أشنع قتلة. فمن نظر في هذا فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غيره بالخلابة والمكر فإنه سيجري على خلابته ومكره.ياً في حكمك وعفافك وفضلك وإنما البلاء كيف أنسيت ذلك في أمري. فلما سمع القاضي ذلك من لفظ دمنة نهض فرفعه إلى الأسد على وجهه فنظر في الأسد ثم دعا أمه فعرضه عليها. فقالت حين تدبرت كلام دمنة للأسد: لقد صار اهتمامي بما أتخوف من احتيال دمنة لك بمكره ودهائه حتى يقتلك أو يفسد عليك أمرك أعظم من اهتمامي بما سلف من ذنبه إليك في الغش والسعاية حتى قتلت صديقك. بغير ذنب. فوقع قولها في نفسه. فقال لها: أخبريني عن الذي أخبرك عن دمنة بما أخبرك فيكون حجة لي في قتل دمنة. فقالت: إني لأكره أن أفشي سر استكتمنيه، فلا يهنئني سروري بقتل دمنة إذا تذكرت أني استظهرت عليه بركوب ما نهت عنه العلماء من كشف السر ولكني أطالب الذي استودعنيه أن يجعلني في حل من ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما سمع منه. ثم انصرفت وأرسلت إلى النمر وذكرت له ما يحق عليه من حسن معاونته الأسد على الحق وإخراج نفسه من الشهادة التي لا يكتمها مثله مع ما يحق عليه من نصر المظلومين وتثبيت حجة الحق في الحياة والممات: فإنه قد قالت العلماء: من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة. فلم تزل به حتى قام فدخل على الأسد فشهد عنده بما سمع من إقرار دمنة. فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد المحبوس الذي سمع إقرار دمنة وحفظه إلى الأسد فقال: إن عندي شهادة. فأخرجوه. فشهد على دمنة بما سمع من إقراره. فقال لهما الأسد: ما منعكما أن تقوما بشهادتكما وقد علمتما أمرنا واهتمامنا بالفحص عن أمر دمنة فقال كل واحد منهما: قد علمنا أن شهادة الواحد لا توجب حكماً فكرهنا التعرض لغير ما يمضي به الحكم حتى إذا شهد أحدنا قام الآخر بشهادته فقبل الأشد قولهما. وأمر بدمنة أن يقتل في حبسه: فقتل أشنع قتلة. فمن نظر في هذا فليعلم أن من أراد منفعة نفسه بضر غيره بالخلابة والمكر فإنه سيجري على خلابته ومكره.
باب الحمامة المطوقة
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل المتحابين كيف قطع بينهما الكذب وإلى ماذا صار عاقبة أمره من بعد ذلك. فحدثني، إن رأيت؛ عن إخوان الصفاء كيف يبتدأ تواصلهم ويستمع بعضهم ببعض? قال الفيلسوف: إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئا فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه. ومن أمثال ذلك مثل الحمامة المطوقة والجرذ والظبي والغراب. قال الملك: وكيف كان ذلك? قال بيدبا: زعموا أنه كان بأرض سكاوندجين، عند مدينة داهر، مكان كثير الصيد، ينتابه الصيادون؛ وكان في ذلك المكان شجرة كثيرة الأغصان ملتفة الورق فيها وكر غراب فبينما هو ذات يوم ساقط في وكره إذ بصر بصياد قبيح المنظر، سيئ الخلق، على عاتقه شبكة، وفي يده عصاً مقبلاً نحو الشجرة، فذعر منه الغراب؛ وقال: لقد ساق هذا الرجل إلى هذا المكان: إما حيني وإما حين غيري. فلأثبتن مكاني حتى أنظر ماذا يصنع. ثم إن الصياد نصب شبكته، ونثر عليها الحب، وكمن قريبا منها، فلم يلبث إلا قليلا، حتى مرت به حمامة يقال لها المطوقة، وكانت سيدة الحمام ومعها حمام كثير؛ فعميت هي وصواحبها عن الشرك، فوقعن على الحبِّ يلتقطنه فعلقن في الشبكة كلهن؛ وأقبل الصياد فرحاً مسروراً. فجعلت كل حمامة تضطرب في حبائلها وتلتمس الخلاص لنفسها. قالت المطوقة: لا تخاذلنا في المعالجة ولا تكن نفس إحداكن أهم إليها م نفس صاحبتها؛ ولكن نتعاون جميعاً فنقلع الشبكة فينجو بعضنا ببعض؛ فقلعن الشبكة جميعهن بتعاونهن، وعلون في الجو؛ ولم يقطع الصياد رجاءه منهن وظن أنهن لا يجاوزن إلا قريباً ويقعن. فقال الغراب: لأتبعهن وأنظرو ما يكون منهن. فالتفتت المطوقة فرأت الصياد يتبعهن. فقالت للحمام: هذا الصياد مجد في طلبكن، فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يخف عليه أمرنا ولم يزل يتبعنا وإن نحن توجهنا إلى العمران خفي عليه أمرنا، وانصرف. وبمكان كذا جرذٌ هو لي أخ؛ فلو انتهينا إليه قطع عنا هذا الشرك. ففعلن ذلك. وأيس الصياد منهن وانصرف. وتبعهن الغراب. فلما انتهت الحمامة المطوقة إلى الجرذ، أمرت الحمام أن يسقطن، فوقعن؛ وكان للجرذ مائة حجر للمخاوف فنادته المطوقة باسمه، وكان اسمه زيرك، فأجابها الجرذ من حجره: من أنت? قالت: أنا خليلتك المطوقة. فأقبل إليها الجرذ يسعى، فقال لها: ما أوقعك في هذه الورطة? قالت له: ألم تعلم أنه ليس من الخير والشر شيء إلا هو مقدرٌ على من تصيبه المقادير، وهي التي أوقعتني في هذه الورطة؛ فقد لا يمتنع من القدر من هو أقوى مني وأعظم أمراً؛ وقد تنكسف الشمس والقمر إذا قضي ذلك عليهما. ثم إن الجرذ أخذ في قرض العقد الذي فيه المطوقة. فقالت له المطوقة: ابدأ بقطع عقد سائر الحمام، وبع ذلك أقبل على عقدي؛ وأعادت ذلك عليه مراراً، وهو لا يلتفت إلى قولها، فلما أكثرت عليه القول وكررت، قال لها: لقد كررت القول عليّ كأنك ليس لك في نفسك حاجة، ولا لك عليها شفقة، ولا ترعين لها حقاً. قالت: إني أخاف، إن أنت بدأت بقطع عقدي أن تمل وتكسل عن قطع ما بقي؛ وعرفت أنك إن بدأت بهن قبلي، وكنت أنا الأخيرة لم ترضَ وإن أدركك الفتور أن أبقى في الشرك قال الجرذ: هذا مما يزيد الرغبة والمودة فيك. ثم إن الجرذ أخذ في قرض الشبكة حتى فرغ منها، فانطلقت المطوقة وحمامها معها.
فلما رأى الغراب صنع الجرذ، رغب في مصادقته، فجاء وناداه باسمه، فأخرج الجرذ رأسه، فقال له: ما حاجتك? قال: إني أريد مصادقتك. قال الجرذ: ليس بيني وبينك تواصل، وإنما العاقل ينبغي له أن يلتمس ما يجد إليه سبيلاً، ويترك التماس ما ليس إليه سبيلٌ، فإنما أنت الآكل، وأنا طعام لك. قال الغراب: إن أكلي إياك، وإن كنت لي طعاماً، مما لا يغني عني شيئاً؛ وإن مودتك آنس لي مما ذكرت ولست بحقيق، إذا جئت أطلب مودتك، أن تردني خائباً. فإنه قد ظهر لي منك من حسن الخلق ما رغبني فيك، وإن لم تكن تلتمس إظهار ذلك: فإن العاقل لا يخفي فضله، وإن هو أخفاه؛ كالمسك الذي يكتم ثم لا يمنعه ذلك من النشر الطيب والأرج الفائح. قال الجرذ. إن أشد العداوة عداوة الجوهر: وهي عداوتان: منها ما هو متكافئ كعداوة الفيل والأسد. فإنه ربما قتل الأسد الفيل أو الفيل الأسد، ومنها ما قوَّته من أحد الجانبين على الآخر كعداوة ما بيني وبين السنور وبيني وبينك: فإن العداوة التي بيننا ليست تضرك، وإنما ضررها عائد عليَّ: فإن الماء لو أطيل إسخانه لم يمنعه ذلك من إطفائه النار إذا صب عليها، وإنما مصاحب العدوّ ومصالحه كصاحب الحية يحملها في كمه، والعاقل لا يستأنس إلى العدو الأريب.
قال الغراب: قد فهمت ما تقول، وأنت خليق أن تأخذ بفضل خليقتك، وتعرف صدق مقالتي ولا تصعب عليّ الأمر بقولك: ليس إلى التواصل بيننا سبيل: فإن العقلاء الكرام لا يبتغون على معروف جزاء، والمودة بين الصالحين سريع اتصالها بطيءٌ انقطاعها. ومثل ذلك مثل الكوز من الذهب: بطيء الانكسار، سريع الإعادة، هيّن الإصلاح، إن أصابه ثلم أو كسر، والمودة بين الأشرار سريعٌ انقطاعها، بطيء اتصالها. ومثل ذلك مثل الكوز من الفخار سريع الانكسار ينكسر من أدنى عيب ولا وصل له أبداً. والكريم يودّ الكريم واللئيم لا يودّ أحداً إلا عن رغبة أو رهبة. وأنا إلى ودّك ومعروفك محتاج: لأنك كريم وأنا ملازم لبابك غير ذائق طعاماً حتى تؤاخيني. قال الجرذ: قد قبلت إخاءك: فإني لم أردد أحداً عن حاجة قطُّ، وإنما بدأت بما بدأتك به إرادة التوثق لنفسي فإن أنت غدرت بي لم تقل: إني وجدت الجرذ سريع الانخداع. ثم خرج من حجره، فوقف عند الباب. فقال له الغراب: ما يمنعك من الخروج إليّ، والاستئناس بي? فهل في نفسك بعد ذلك مني ريبة? قال الجرذ: إن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواصلون عليهما وهما ذات النفس، وذات اليد. فالمتباذلون ذات النفس هم الأصفياء، وأما المتباذلون ذات اليد فهم المتعاونون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض. ومن كان يصنع المعروف لبعض منافع الدنيا فإنما مثله فيما يبذل ويعطى كمثل الصياد وإلقائه الحب للطير، لا يريد بذلك نفع الطير وإنما يريد نفع نفسه. فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد. وإني وثقت منك بذات نفسك، ومنحتك من نفسي مثل ذلك. وليس يمنعني من الخروج إليك سوء ظنٍّ بك، ولكن قد عرفت أن لك أصحاباً جوهرهم كجوهرك، وليس رأيهم فيَّ رأيك.
قال الغراب: إن من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً، ولعدو صديقه عدواً؛ وليس لي بصاحب ولا صديق من لا يكون لك محباً؛ وإنه يهون عن قطيعة من كان كذلك من جوهري. ثم إن الجرذ خرج إلى الغراب فتصافحا وتصافيا، وأنس كل واحد منهما بصاحبه؛ حتى إذا مضت لهما أيام قال الغراب للجرذ: إن جحرك قريب من طريق الناس، وأخاف أن يرميك بعض الصبيان بحجرٍ؛ ولي مكان في عزلة، ولي فيه صديقٌ من السلاحف وهو مخصب من السمك ونحن واجدون هناك ما نأكل فأريد أن أنطلق بك إلى هناك لنعيش آمنين. قال الجرذ: إن لي أخبار وقصصاً سأقصها عليك إذا انتهينا حيث تريد فافعل ما تشاء. فأخذ الغراب بذنب الجرذ وطار به حتى بلغ به حيث أراد. فلما دنى من العين التي فيها السلحفاة بصرت السلحفاة بغراب ومعه جرذ فذعرت منه ولم تعلم أنه صاحبها، فناداه فخرجت إليه وسألته من أين أقبلت? فأخبرها بقصته حين تبع الحمام وما كان من أمره وأمر الجرذ حتى انتهى إليها. فلما سمعت السلحفاة شأن الجرذ عجبت من عقله ووفاءه ورحبت به وقالت له: ما ساقك إلى هذه الأرض? قال الغراب للجرذ: اقصص عليّ الأخبار التي زعمت أنك تحدثني بها فأخبرني بها مع جواب ما سألت السلحفاة: فإنها عندك بمنزلتي، فبدأ الجرذ وقال: كان منزلي أول أمري بمدينة ماروت في بيت رجل ناسك وكان خالياً من الأهل والعيال، وكان يؤتى في كل يوم بسلة من الطعام فيأكل منها حاجته ويعلق الباقي، وكنت أرصد الناسك، حتى يخرج وأثب إلى السلة، فلا أدع فيها طعاماً إلا أكلته، وأرمي به إلى الجرذان. فجهد الناسك مراراً أن يعلق السلة مكاناً لا أناله فلم يقدر على ذلك، حتى نزل به ذات ليلة ضيف فأكلا جميعاً، ثم أخذا في الحديث فقال الناسك للضيف: من أي أرض أقبلت? وأين تريد الآن? وكان الرجل قد جاب الآفاق ورأى عجائب فأنشأ يحدث الناسك عمّا وطئ من البلاد، ورأى من العجائب، وجعل الناسك خلال ذلك يصفق بيديه لينفّرني عن السلة، فغضب الضيف وقال: أنا أحدثك وأنت تهزأ بحديثي! فما حملك على أن سألتني? فاعتذر إليه الناسك، وقال: إنما أصفق بيدي لأنفّر جرذاً قد تحيرت في أمره، ولست أضع في البيت شيئاً إلا أكله، فقال الضيف: جرذٌ واحد يفعل ذلك أم جرذان كثيرة? فقال الناسك: فما أستطيع له حيلة. قال الضيف: لقد ذكرتني قول الذي قال: لأمر ما باعت هذه المرأة سمسماً مقشوراً بغير مقشور! قال الناسك: وكيف كان ذلك?
قال الضيف: نزلت مرة على رجل بمكان كذا، فتعشينا، ثم فرش لي. وانقلب الرجل على فراشه، فسمعته يقول في آخر الليل لامرأته: إني أريد أن أدعو غداً رهطا ليأكلوا عندنا، فاصنعي لهم طعاماً. فقالت المرأة: كيف تدعو الناس إلى طعامك، وليس في بيتك فضل عن عيالك? وأنت رجل لا تبقي شيئاً ولا تدخره. قال الرجل: لا تندمي على شيءٍ أطعمناه وأنفقناه: فإن الجمع والادخار ربما كانت عاقبته كعاقبة الذئب. قالت المرأة وكيف كان ذلك? قال الرجل: زعموا أنه خرج ذات يوم رجل قانصٌ، ومعه قوصه ونشابه فلم يجاوز غير بعيد، حتى رمى ظبياً، فحمله ورجع طالباً منزله، فاعترضه خنزير بريٌّ فرماه بنشابةٍ نفذت فيه، فأدركه الخنزير وضربه بأنيابه ضربة أطارت من يده القوس، ووقعا ميتين، فأتى عليهم ذئب فقال: هذا الرجل والظبي والخنزير يكفيني أكلهم مدةً، ولكن أبدأ بهذا الوتر فآكله، فيكون قوت يومي، فعالج الوتر حتى قطعه فلما انقطع طارت سية القوس فضربت حلقه فمات. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلمي أن الجمع والادخار وخيم العاقبة. فقالت المرأة: نعم ما قلت! وعندنا من الأرز والسمسم ما يكفي ستة نفر أو سبعة، فأنا غاديةٌ على اصطناع الطعام، فادع من أحببت. وأخذت المرأة حين أصبحت سمسماً فقشرته، وبسطته في الشمس ليجفِّ، وقالت لغلام لهم: اطرد عنه الطير والكلاب وتفرغت المرأة لصنعها؛ وتغافل الغلام عن السمسم؛ فجاء كلبٌ، فعاث فيه؛ فاستقذرته المرأة، وكرهت أن تصنع منه طعاماً ما؛ فذهبت به إلى السوق، فأخذت به مقايضة سمسماً غير مقشور: مثلاً بمثلٍ، وأنا واقفٌ في السوق؛ فقال رجلٌ: لأمرٍ ما باعت هذه المرأة سمسماً مقشوراً بغير مقشورٍ. وكذلك قولي في هذا الجرذ الذي ذكرت أنه على غير علةٍ ما يقدر على ما شكوت منه. فالتمس لي فأساً لعلي أحتقره جحره فأطلع على بعض شأنه. فاستعار الناسك من بعض جيرانه فأساً، فأتى بها الضيف، وأنا حينئذٍ في غير جحري أسمع كلامهما، وفي جحري كيس فيه مائة دينار، لا أدري من وضعها، فاحتفر الضيف حتى انتهى إلى الدنانير فأخذها وقال الناسك: ما كان هذا الجرذ يقوى على الوثوب حيث كان يثب إلا بهذه الدنانير: فإن المال جعل له قوة وزيادة في الرأي والتمكن. وسترى بعد هذا أنه لا يقدر على الوثوب حيث كان يثب. فلما كان من الغد اجتمع الجرذان التي كانت معي فقالت: قد أصابنا الجوع، وأنت رجائنا فانطلقت ومعي الجرذان إلى المكان الذي كنت أثب منه إلى السلة فحاولت ذلك مراراً: فلم أقدر عليه فاستبان للجرذان نقص حالي فسمعتهن يقلن: انصرفن عنه، ولا تطمعن فيما عنده: فإنا نرى له حالاً لا نحسبه إلا قد احتاج معها إلى من يعوله. فتركني، ولحقن بأعدائي وجفونني، وأخذن في غيبتي عند من يعاديني ويحسدني. فقلت في نفسي: ما الإخوان ولا الأعوان ولا الأصدقاء إلا بالمال ووجدت من لا مال له، إذا أراد أمراً قعد به العدم عمّا يريده: كالماء الذي يبقى في الأودية من مطر الشتاء: لا يمر إلى نهر ولا يجري إلى مكان، فتشربه أرضه. ووجدت من لا إخوان له لا أهل له، ومن لا ولد له لا ذكر له: ومن لا مال له لا عقل له، ولا دنيا ولا آخرة له: لأن الرجل إذا افتقر قطعه أقاربه وإخوانه: فإن الشجرة النابتة في السباخ، المأكولة من كل جانب، كحال الفقير المحتاج إلى ما في أيدي الناس.
ووجدت الفقر رأس كل بلاء، وجالباً إلى صاحبه كل مقت، ومعدن النميمة. ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان يظن فيه حسناً: فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً. وليس من خلة هي للغني مدح إلا وهي للفقير ذمٌ، فإن كان شجاعاً قيل: أهوج، وإن كان جواداً سمّي مبذراً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقورا سمي بليداً. فالموت أهون من الحاجة التي تحوج صاحبها إلى المسألة، ولا سيما مسألة الأشحاء واللئام: فإن الكريم لو كلف أن يدخل يده في فم الأفعى، فيخرج منه سماً فيبتلعه كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل اللّئم. وقد كنت رأيت الضيف حين أخذ الدنانير فقاسمها الناس، فجعل الناسك نصيبه في خريطة عند رأسه ولما جنّ الليل، فطمعت أن أصيب منها شيئاً فأرده إلى جحري، ورجوت أن يزيد ذلك في قوتي، ويراجعني بسببه بعض أصدقائي. فانطلقت إلى الناسك وهو نائم، حتى انتهيت عند رأسه، ووجدت الضيف يقظان، وبيده قضيب، فضربني على رأسي ضربة موجعة، فسعيت إلى جحري. فلما سكن عني الألم، هيجني الحرص والشره، فخرجت طمعاً كطمعي الأول، وإذا الضيف يرصدني، فضربني ضربة أسالت مني الدم، فتقلبت ظهراً لبطن إلى جحري، فخررت مغشياً عليّ، فأصابني من الوجع ما بغض إلى المال رعدة وهيبة. ثم تذكرت فوجدت البلاء في الدنيا إنما يسوقه الحرص والشره، ولا يزال صاحب الدنيا في بلية وتعب ونصب، ووجدت تجشم الأسفار البعيدة في طلب الدنيا أهون عليّ من بسط اليد إلى السَّخىِّ بالمال، ولم أر كالرضا شيئاً، فصار أمري إلى أن رضيت وقنعت، وانتقلت من بيت الناسك إلى البرية، وكان لي صديق من الحمام، فسيقت إلي بصداقته صداقة. ثم ذكر لي الغراب ما بينك وبينه من المودة، وأخبرني أنه يريد إتيانك، فأحببت أن آتيك معه، فكرهت الوحدة، فإنه لا شيء من سرور الدنيا يعدل صحبة الإخوان، ولا غم فيها يعدل البعد عنهم. وجربت: فعلمت أنه لا ينبغي للعاقل أن يلتمس من الدنيا غير الكفاف الذي يدفع به الأذى عن نفسه: وهو اليسير من المطعم والمشرب، إذا اشتمل على صحة البدن ورفاهة البال.
ولو أن رجلاً وهبت له الدنيا بما فيهان لم يك ينتفع من ذلك إلا بالقليل الذي يدفع به عن نفسه الحاجة: فأقبلت مع الغراب إليك على هذا الرأي، وأنا لك أخ، فلتكن منزلتي عندك كذلك. فلما فرغ الجرذ من كلامه أجابته السلحفاة بكلامٍ رقيقٍ عذبٍ، وقالت: قد سمعت كلامك، وما أحسن ما تحدثت به! إلا أني رأيتك تذكر بقايا أمورٍ هي في نفسك. واعلم أن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل، وأن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن يتداو به، لم يغن به شيئاً، ولم يجد لدائه راحة ولا خفةً. فاستعمل رأيك، ولا تحزن لقلة المال: فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال: كالأسد الذي يهاب، وإن كان رابضاً، والغني الذي لا مروءة له يهان وإن كان كثير المال: كالكلب لا يحفل به، وإن طوق وخلخل بالذهب. فلا تكبرنّ عليك غربتك: فإن العاقل لا غربة له: كالأسد الذي لا ينقلب إلا ومعه قوته. فلتحسن تعاهدك لنفسك: فإنك إذا فعلت ذلك جاءك الخير يطلبك كما يطلب الماء انحداره. وإنما جُعلَ الفضل للحازم البصير بالأمور، وأما الكسلان المتردد فإن الفضل لا يصحبه. وقد قيل في أشياء ليس لها ثباتٌ ولا بقاء: ظل الغمامة في الصيف، وخلة الأشرار، والبناء على غير أساس، والمال الكثير: فالعاقل لا يحزن لقلته، وإنما مال العاقل عقله، وما قدّم من صالح، فهو واثق بأنه لا يسلب ما عمل ولا يوآخذ بشيءٍ لم يعمله، وهو خليق ألا يغفل عن أمر أخرته: فإن الموت لا يأتي إلا بغتةً، ليس له وقت معين. وأنت عن موعظتي غني بما عندك من العلم. ولكن رأيت أن أقضي مالك من حق قبلنا: لأنك أخونا وما عندنا من النصح مبذول لك. فلما سمع الغراب كلام السلحفاة للجرذ وردها عليه وملاطفتها إياه فرح بذلك وقال: لقد سررتني وأنعمت عليّ، وأنت جديرة أن تسرّي نفسك بمثل ما سررتني به. وإن أولى أهل الدنيا بشدّة السرور من لا يزال عنده منهم جماعة يسرهم ويسرونه، ويكون من وراء أمورهم وحاجاتهم بالمرصاد: فإن الكريم إذا عثر لا يأخذ بيده إلا الكرام: كالفيل إذا وحل لا تخرجه إلا الفيلة. فبينما الغراب في كلامه، إذ أقبل نحوهم ظبي يسعى، فذعرت منه السلحفاة، فغاصت في الماء، وخرج الجرذ إلى جحره، وطار الغراب فوقع على شجرة.
ثم إن الغراب حلّق في السماء لينظر هل للظبي طالب? فنظر فلم ير شيئاً؛ فنادى الجرذ والسلحفاة، وخرجا، فقالت السلحفاة للظبي، حين رأته ينظر إلى الماء: اشرب إن كان بك عطش، ولا تخف: فإنه لا خوف عليك. فدنا الظبي فرحبت به السلحفاة وحيّته وقالت له: من أين أقبلت? قال: كنت أسنح بهذه الصحارى فلم تزل الأساورة تطردني من مكان إلى مكان حتى رأيت اليوم شبحاً. فخفت أن يكون قانصاً قالت: لا تخف: فإنا لم نرى هاهنا قانصاً قط، ونحن نبذل لك ودّنا ومكاننا والماء والمرعى كثيران عندنا فارغب في صحبتنا. فأقام الظبي معهم وكان لهم عريش يجتمعون فيه ويتذاكرون الأحاديث والأخبار. فبينما الغراب والجرذ والسلحفاة ذات يوم في العريش غاب الظبي فتوقعوه ساعة فلم يأت. فلما أبطأ أشفقوا أن يكون قد أصابه عنتٌ، فقال الجرذ والسلحفاة للغراب: انظر هل ترى مما يلينا شيئاً? فحلق الغراب في السماء فنظر: فإذا الظبي في الحبائل مقتنصاً فانقض مسرعاً فأخبرهما بذلك فقالت السلحفاة والغراب للجرذ: هذا أمر لا يرجى فيه غيرك، فأغث أخاك، فسعى الجرذ مسرعاً، فأتى الظبي، فقال له: كيف وقعت في هذه الورطة وأنت من الأكياس? قال الظبي: هل يغني الكيس مع المقادير شيئاً، فبينما هما في الحديث إذ وافتهما السلحفاة فقال لها الظبي. ما أصبت بمجيئك إلينا: فإن القانص لو انتهى إلينا وقد قطع الجرذ الحبائل استبقه عدواً، وللجرذ أحجارٌ كثيرة، والغراب يطير وأنت ثقيلة: لا سعى لك ولا حركة وأخاف عليك القانص. فقالت: لا عيش مع فراق الأحبة وإذا فارق الأليف أليفه فقد سلب فؤاده، وحرم سروره، وغشى بصره، فلم ينتهي كلامهما حتى وافى القانص، ووافق ذلك فراغ الجرذ من قطع الشرك، فنجا الظبي بنفسه، وطار الغراب محلقاً ودخل الجرذ بعض الأحجار ولم يبق غير السلحفاة، ودنا الصياد فوجد حبالته مقطّعة، فنظر يميناً وشمالاً فلم يجد غير السلحفاة تدب، فأخذها وربطها، فلم يلبث الغراب والجرذ والظبي أن اجتمعوا فنظروا القانص قد ربط السلحفاة فاشتد حزنهم، وقال الجرذ: ما أرانا نجاوز عقبة من البلاء إلا صرنا في أشد منها. ولقد صدق الذي قال: لا يزال الإنسان مستمراً في إقباله ما لم يعثر، فإذا عثر لجَّ به العثار وإن مشى في جدد الأرض. وحذري على السلحفاة خير الأصدقاء التي خلتها ليست للمجازاة ولا لالتماس مكافأة، ولكنها خلة الكرم والشرف، خلة هي أفضل من خلة الوالد لولده، خلة لا يزيلها إلا الموت. ويحٌ لهذا الجسد الموكل به البلاء الذي لا يزال في تصرف وتقلب، ولا يدوم له شيء، ولا يلبث معه أمر: كما لا يدوم للطالع من النجوم طلوع، ولا للآفل منها أفولٌ، لكن لا يزال للطالع منها آفلاً، والآفل طالعاً، وكما تكون آلام الكلوم وانتقاض الجراحات، كذلك من قرحت كلومه بفقد إخوانه بعد اجتماعه بهم.
فقال الظبي والغراب للجرذ: إنّ حذرنا وحذرك وكلامك، وإن كان بليغاً، كلٌ منها لا يغني عن السلحفاة شيئاً، وإنه كما يقال: إنما يختر الناس عند البلاء، وذو الأمانة عند الأخذ والعطاء، والأهل والولد عند الفاقة، كذلك يختبر الإخوان عند النوائب. قال الجرذ: أرى من الحيلة أن تذهب أيها الظبي فتقع بمنظر من القانص: كأنك جريح، ويقع الغراب عليك كأنه يأكل منك، وأسعى أنا فأكون قريباً من القانص، مراقباً له، فعلّه أن يرمي ما معه من الآلة، ويضع السلحفاة، ويقصدك طامعاً فيك، راجياً تحصيلك. فإذا دنا منك ففر عنه رويداً: بحيث لا ينقطع طمعه منك، ومكنه من أخذك مرة بعد مرة، حتى يبعد عنا، وانْحُ منه هذا النحو ما استطعت: فإني أرجو ألا ينصرف إلا وقد قطعت الحبائل عن السلحفاة، وأنجو بها. ففعل الغراب والظبي ما أمرهما به الجرذ، وتبعهما القانص، فاستجره الظبي، حتى أبعده عن الجرذ والسلحفاة، والجرذ مقبلٌ على قطع الحبائل، حتى قطعها، ونجا بالسلحفاة، وعاد القانص مجهوداً لاغباُ فوجد حبالته مقطعة. ففكر في أمره مع الظبي المتظالع، فظن أنه خولط في عقله وفكر في أمر الظبي والغراب الذي كأنه يأكل منه وقرض حبالته فاستوحش من الأرض وقال: هذه أرض جنٍّ أو سحرة. فرجع مولياً لا يلتكس شيئاً ولا يلتفت إليه. واجتمع الغراب والظبي والجرذ والسلحفاة إلى عريشهم سالمين آمنيين كأحسن ما كانوا عليه. فإذا كان هذا الخلق مع صغره وضعفه قد قدر على التخلص م مرابط الهلكة مرة بعد أخرى بمودته وخلوصها وثبات قلبه عليها واستمتاعه مع أصحابه بعضهم ببعض فالإنسان الذي قد أعطي العقل والفهم. وألهم الخير ولا شر ومنح التميز والمعرفة، أولى وأحرى بالتواصل والتعاضد. فهذا مثل إخوان الصفاء وأتلافهم في الصحبة.
باب البوم والغربان
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل إخوان الصفاء وتعاونهم، فاضرب لي مثل العدوّ الذي لا ينبغي أن يغتر به، وإن أظهر تضرعاً وملقاً، قال الفيلسوف: من اغتر بالعدو الذي لم يزل عدواً، أصابه ما أصاب البوم من الغربان. قال الملك وكيف كان ذلك?
قال بيدبا: زعموا أنه كان في جبل في الجبال شجرة من شجر الدوح، فيها وكر ألف غراب، وعليهن والٍ من أنفسهن، وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بوم، وعليهن والٍ منهن. فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته، وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم، فأغار ملك البوم في أصحابه على الغربان في أوكارها، فقتل وسبى منها خلقاً كثيراُ، وكانت الغارة ليلاً، فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها فقلن له: قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم، وما منّا لإلا أصبح قتيلاً أو جريحاً أو مكسور الجناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشد مما أصابنا ضراً علينا جراءتهن علينا، وعلمهن بمكاننا، وهنّ عائدات إلينا غير منقطعات عنّا: لعلمهنّ بمكاننا: فإنما نحن لك، ولك الرأي، أيها الملك، فانظر لنا ولنفسك، وكان في الغربان خمسة معترف لهن بحسن الرأي، يسند إليهنّ في الأمور، ويلقى عليهن أزمة الأحوال. وكان الملك كثيراً ما يشاورهن في الأمور، ويأخذ آراءهن في الحوادث والنوازل. فقال الملك للأول من الخمسة: ما رأيك في هذا الأمر? قال: رأي قد سبقتنا إليه العلماء، وذلك أنهم قالوا: ليس للعدو الحنق إلا الهرب منه. قال الملك للثاني: ما رأيك في هذا الأمر? قال: رأي ما رأى هذا من الهرب. قال الملك: لا أرى لكما ذلك رأياً، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا منه ولا ينبغي لنا ذلك ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالاً غير مراجعين فيه، ولا مقصرين عنه وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدونّا: بالأناة مرة وبالجلاد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنّا. ثم قال الملك للثالث: ما رأيك أنت? قال: ما أرى ما قالا رأياً. ولكن نبث العيون ونبعث الجواسيس ونرسل الطلائع بيننا وبين عدونا فنعلم أيريد صلحنا أم يريد حربنا أم يريد الفدية? فإن رأينا أمره أمر طامع في مال، لم نكره الصلح على خراجٍ نؤديه إليه كل سنة، ندفع به عن أنفسنا ونطمئن في أوطاننا: فغن من أراء الملوك إذا أشتدت شوكة عدوهم، فخافوه على أنفسهم وبلادهم، أن يجعلوا الأموال جنة البلاد والملك والرعية. قال الملك للرابع: فما رأيك في هذا الصلح? قال لا أراه رأياً بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خيرٌ من أن نضيع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك عليهن لما رضين منّا إلا بالشَّطط. ويقال في الأمثال: قارب عدوك بعض المقاربة: لتنال حاجتك.
ولا تقاربه كل المقاربة: فيتجرىء عليك ويضعف جندك وتذلَّ نفسك. ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس: إذا أملتها قليلاً زاد ظلها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظلُّ. وليس عدونا راضياً منّا بالدون في المقاربة، فالرأي لنا ولك المحاربة. قال الملك للخامس: ما تقول أنت? وماذا ترى: القتال أم الصلح أم الجلاء عن الوطن? قال: أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه وقد يقال: إنه من لا يعرف نفسه وعدوه وقاتل من لا يقوى عليه، حمل نفسه على حتفها مع أن العاقل لا يستصغر عدواً: فإن من استصغر عدوه اغتر به ومن اغتر بعدوه لم يسلم منه. وأنا للبوم شديد الهيبة وإن أضربن عن قتالنا وقد كنت أهابها قبل ذلك، فإن الحازم لا يأمن عدوه على كل حال فإن كان بعيداً لم يأمن سطوته، وإن كان مكثباً لم يأمن من وثبته، وإن كان وحيداً لم يأمن من مكره. وأحزم الأقوام وأكسيهم من كره القتال لجل النفقة فيه: فإن ما دون القتال النفقة فيه من الأموال والقول والعمل، والقتال النفقة فيه من الأنفس والأبدان. فلا يكونن القتال للبوم من رأيك، أيها الملك: فإن من قاتل من لا يقوى عليه فقد غرر بنفسه. فإذا كان الملك محصناً للأسرار، متخيراً للوزراء، مهيباً في أعين الناس، بعيداً من أن يقدر عليه، كان خليقاً ألا يسلب صحيح ما أوتى من الخير. وأنت، أيها الملك، كذلك. وقد استشرتني في أمر جوابك منّي عنه، في بعضه علانية، وفي بعضه سرٌ وللأسرار منازل: منها ما يدخل فيه الرهط، ومنها ما يستعان فيه بالقوم، ومنها ما يدخل فيه الرجلان. ولست أرى لهذا السر على قدر منزلته أن يشارك فيه إلا أربع آذانٍ ولسانان. فنهض الملك من ساعته، وخلا به، فاستشاره، فكان أول ما سأله عنه الملك أنه قال: هل يعلم ابتداء عداوة ما بيننا وبين البوم? قال: نعم: كلمة تكلم بها غراب. قال الملك: وكيف كان ذلك? قال الغراب: زعموا أن جماعة من الكراكي لم يكن لها ملك، فأجمعت أمرها على أن يملكن عليهن ملك البوم فبينما هي في مجمعها إذ وقع لها غراب، فقالت: لو جاءنا هذا الغراب. لاستشرناه؛ فلم يلبثن دون أن جاءهن الغراب. فاستشرنه، فقال: لو أن الطير بادت من الأقاليم، وفقد الطاوس والبط والنعام والحمار من العالم لما اضطررتن إلى أن تملّكن عليكنّ البوم التي هي أقبح الطير منظراً، وأسوؤها خلقاً، وأقلها عقلاً، وأشدها غضباً وأبعدها من كل رحمة، مع عماها وما بها من العشا بالنهار، وأشد من ذلك وأقبح أمورها سفهها وسوء أخلاقها، إلا أن ترين أن تملكنها وتكن أنتن تدبرن الأمور دونها برأيكن وعقولكن، كما فعلت الأرنب التي زعمت أن القمر ملكها، ثم عملت برأيها، قال الطير: وكيف كان ذلك?
قال الغراب: زعموا أن أرضاً من أراضي الفيلة تتابعت عليها السنون، وأجدبت، وقل ماؤها، وغارت عيونها، وذوى نبتها، ويبس شجرها، فأصاب الفيلة عطش شديد: فشكون ذلك إلى ملكهن، فأرسل الملك رسوله ورواده في طلب الماء، في كل ناحية. فرجع إليه بعض الرسل، فأخبره إني قد وجدت بمكان كذا عيناً يقال لها عين القمر، كثيرة الماء. فتوجه ملك الفيلة بأصحابه إلى تلك العين ليشرب منها هو وفيلته. وكانت العين في أرض للأرانب، فوطئن الأرانب في أجحارهن، فأهلكن منهن كثيراً، فاجتمعت الأرانب إلى ملكها فقلن له: قد علمت ما أصابنا من الفيلة فقال: ليحضرن منكن كل ذي رأي رأيه. فتقدمت أرنبٌ من الأرانب يقال لها فيروز. وكان الملك يعرفها بحسن الرأي والأدب، فقالت: إن رأى الملك أن يبعثني إلى الفيلة ويرسل معي أميناً، ليرى ويسمع ما أقول، ويرفعه إلى الملك، فقال لها الملك: أنت أمينة، ونرضى بقولك، فانطلقي إلى الفيلة، وبلغي عني ما تريدين. واعلمي أن الرسول برأيه وعقله، ولينه وفضله، يخبر عن عقل المرسل. فعليك باللين والرفق والحلم والتأني: فإن الرسول هو الذي يلين الصدور إذا رفق، ويخشن الصدور إذا خرق. ثم إن الأرنب انطلقت في ليلة قمراء، حتى انتهت إلى الفيلة، وكرهت أن تدنو منهن: مخافة أن يطأنها بأرجلهن، فيقتلنها، وإن كنّ غير متعمدات. ثم أشرفت على الجبل ونادت ملك الفيلة وقالت له: إن القمر أرسلني إليك، والرسول غير ملوم فيما يبلغ، وإن أغلظ في القول. قال ملك الفيلة: فما الرسالة? قالت: يقول لك: إن من عرف فضل قوته على الضعفاء، فاغتر بذلك في شأن الأقوياء، قياساً لهم على الضعفاء، كانت قوته وبالاً عليه. وأنت قد عرفت فضل قوتك على الدواب، فغرّك ذلك، فعمدت إلى العين التي تسمى باسمي، فشربت منها، وكدّرتها. فأرسلني إليك: فأنذرك ألا تعود إلى مثل ذلك. وإنك إن فعلت أُغشِّ بصرك، وأتلف نفسك. وإن كنت في شكٍّ من رسالتي، فهلم إلى العين من ساعتك: فإني موافيك بها. فعجب ملك الفيلة من قول الأرنب، فانطلق إلى العين مع فيروز الرسول. فلما نظر إليها، رأى ضوء القمر فيها. فقالت له فيروز الرسول: خذ بخرطومك من الماء فاغسل به وجهك، واسجد للقمر. فأدخل الفيل خرطومه في الماء، فتحرك فخيل للفيل أن القمر ارتعد. فقال: ما شأن القمر ارتعد? أتراه غضب من إدخالي الخرطوم في الماء? قالت فيروز الأرنب: نعم. فسجد الفيل للقمر مرة أخرى، وتاب إليه مما صنع، وشرط ألا يعود إلى مثل ذلك هو ولا أحد من فيلته. قال الغراب: ومع ما ذكرت من أمر البوم إن فيها الخبَّ والمكر والخديعة، وشر الملوك الخادع، ومن ابتلى بسلان مخادع، وخدمه، أصاب ما أصاب الأرنب والفرد حين احتكما إلى السنور. قالت الكراكي: وكيف كان ذلك? قال الغراب: كان لي جاراً من االصفاردة في أصل شجرة قريبة من وكرى وكان يكثر مواصلتي ثم فقدته فلم أعلم أين غاب وطالت غيبته عني. فجاءت أرنب إلى مكان الصفرد فسكنته فكرهت أن أخاصم الأرنب فلبثت فيه زماناً. ثم إن الصفرد غاد بعد زمان فأتى منزله فوجد فيه الأرنب. فقال لها : هذا المكان لي ، فانتقلي عنه. قالت الأرنب: المسكن لي، وتحت يدي؛ وأنت مدّع له. فإن كان لك حقٌ فاستعد بإثباته عليّ. قال الصفرد: القاضي منا قريب: فهلمي بنا إليه. قالت الأرنب: ومن القاضي? قال الصفرد: إن بساحل البحر سنوراً متعبداً، يصوم النهار، ويقوم الليل كله؛ ولا يؤذي دابةٍ، ولا يهرق دماً، عيشه من الحشيش ومما يقذفه إليه البحر. فإن أحببت تحاكمنا إليه، ورضينا به. قالت الأرنب: المسكن لي، وتحت يدي، وأنت مدع له. فإن كان لك حق فاستعد بإثباته عليّ.
قال الصفرد: القاضي? منا قريب: إن بساحل البحر سنوراًمعبداً، يصوم النهار، ويقوم الليل كله، ولايؤذى دابة، ولا يهريق دماً، عيشه من الحشيش ومما يقذفه إليه البحر. فإن أحببت تحاكما إليه، ورضينا به. قالت الأرنب: ما أرضاني به إذا كان كما وصفت. فانطلقا إليه فتبعهما لأنظر إلى حكومة الصوام القوام ثم إنهما ذهبا إليه فلما بصر النور بالأرنب والصفرد مقبيلين نحوه، انتصب قائماً يصلي، وأظهر الخشوع والتنسك. فعجبا لما رأيا من حاله ودنوا منه هائبين له، وسلما عليه وسألاه أن يقضي بينهما. فأمر هما أن يقصا عليه القصة ففعلا. فقال لهما: قد بلغني الكبر وثقلت أذناي: فادنوا مني فاسمعانى ما تقولان. فدنوا منه، وأعادا عليه القصة وسألاه الحكم فقال قد فهمت ما قلتما، وأنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة بينكما: فأنا آمركما بتقوى الله وألاتطلبا إلا الحق هو الذي يفلح، وأن قضى عليه وطالب الحق هو الذي يفلح وإن قضى عليه وطالب الباطل مخصوم وإن قضى له. وليس لصاحب الدنيا من دنياه شئ لا مال ولا صديق سوى العمل الصالح يقدمه فذو العقل حقيق أن يكون سعيه في طلب ما يبقى وعود نفعه عليه غداً، وأن يمقت بسعيه فيما سوى ذلك من أمور الدنيا: فإن منزلة المال عند العاقل بمنزلة المدر، ومنزلة الناس عنده فيما يحب أهم من الخير ويكره من الشر بمنزلة نفسه. ثم إن السّنّور لم يزل يقصّ عليهما من جنس هذا وأشباهه، حتى أنسا إليه، وأقبلا عليه، ودنوا منه، ثم وثب عليهما فقتلهما. قال الغراب: ثم إن البوم تجمع مع ما وصفت لكن من الشؤم سائر العيوب: فلا يكونن تمليك البوم من رأ يكن. فلما سمع الكراكى ذلك من كلام الغراب أضربن عن تمليك البوم. زكان هناك بوم حاضر قد سمع ما قالوا، فقال الغراب: لقد وترتني أعظم الترة، ولا أعلم أنه سلف مني إليك سوءٌ أوجب هذا. وبعد فاعلم أن الفأس يقطع به الشجر فيعود ينبت السيف يقطع اللحم ثم يعود فيندمل واللسان لا يندمل جرحه ولا تؤسى مقاطعه. والنصل من السهم يغيب في اللحم ثم ينزع فيخرج، وأشباه النصل من الكلام إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج. ولكل حريق مطفئٌ: فللنار الماء، وللسم الدواء وللحزن الصبر ونلر الحقد لا تخبو أبداً. وقد غرستم معاشر الغربان بيننا وبينكم شجر الحقد والعداوة والبغضاء.
فلما قضى البوم مقالته، ولىّ مغضباً، فأخبر ملك البوم بما جرى وبكل ما كان منقول الغراب، ثم إن الغراب ندم على ما فرط منه، وقال: والله لقد خرقت في قولي الذي جلبت به العداوة والبغضاء على نفسي وقومي! وليتني لم أخبر الكراكي بهذه الحال! ولا أعلمتها بهذا الأمر! ولعل أكثر الطير قد رأى أكثر مما رأيت، وعلم أضعاف ما علمت، فمنعها من الكلام بمثل ما اتقاء ما لم أتق، والنظر فيما لم أنظر فيه من حذار العواقب، لا سيما إذا كان الكلام أفظع كلام، يلقى منه سامعه وقائله المكروه مما يورث الحقد والضغينة، فلا ينبغي لأشباه هذا الكلام، أن تسمى كلاماً، ولكن سهاماً. والعاقل، وإن كان واثقاً بقوته وفضله، لا ينبغي أن يحمل ذلك على أن يجلب العداوة على نفسه اتكالاً على ما عنده من الرأي والقوة، كما أنه وإن كان عنده الترياق لا ينبغي له أن يشرب السم اتكالاً على ما عنده. وصاحب حسن العمل، وإن قصر به القول في مستقبل الأمر، كان فضله بيّناً واضحاً في العاقبة والاختار، وصاحب حسن القول، وإن أعجب الناس منه حسن صفته للأمور لم تحمد عاقبة أمره. وأنا صاحب القول الذي لا عاقبة له محمودة. أليس من سفهي اجترائي على التكلم في الأمر الجسيم لا أستشير فيه أحداً، ولم أعمل فيه رأياً? ومن لم يستشر النصاء الأولياء، وعمل برأيه من غير تكرار النظر والروية، لم يغتبط بمواقع رأيه. فما كان أغناني عما كسبت يومي هذا، وما وقعت فيه من الهم! وعاتب الغراب نفسه بهذا الكلام وأشباهه وذهب. فهذا ما سألتني عنه من ابتداء العداوة بيننا وبين البوم.
وأما القتال فقد علمت رأيي فيه، وكراهتي له، ولكن عندي من الرأي والحيلة غير القتال ما يكون فيه الفرج إن شاء الله تعالى: فإنه ربَّ قوم قد احتالوا بآرائهم حتى ظفروا بما أرادوا. ومن ذلك حديث الجماعة الذين ظفروا بالناسك، وأخذوا عريضه قال الملك: وكيف كان ذلك?
قال الغراب: زعموا ان ناسكاً اشتى عريضاً ضخماً ليجعله قرباناً، فانطلق به يقوده فبصر به قوم من المكرة، فأتمروا بينهم أن يأخذوه من الناسك. فعرض له أحدهم فقال له: أيها الناسك، ما هذا الكلب الذي معك? ثم عرض له الآخر فقال لصاحبه: ما هذا الناسك، لأن الناسك لا يقود كلباً. فلم يزالو مع الناسك على هذا ومثله حتى لم يشك أنَّ الذي يقوده كلبٌ، وأن الذي باعه إياه سحر عينه، فأطلقه من يده، فأخذه الجماعة المحتالون ومضوا به. وإنما ضربت لك هذا المثل لما أرجو أن نصيب من حاجتنا بالرفق والحيلة. وإني أريد من الملك أن ينقرني على رؤوس الأشهاد، وينتف ريشي وذنبي، ثم يطرحني في أصل هذه الشجرة، ويرتحل الملك هو وجنوده إلى مكان كذا. فأرجو أنّي أصبر وأطلع على أحوالهم، ومواضع تحصينهم وأبوابهم، فأخادعهم وآتي إليكم لنهجم عليهم، وننا منهم غرضنا إن شاء الله تعالى.
قال الملك: أتطيب نفسك لذلك? قال: نعم، وكيف لا تطيب نفسي لذلك وفيه أعظم الراحات للملك وجنوده? ففعل الملك بالغراب ما ذكر، ثم ارتحل عنه فجعل الغراب يئن ويهمس حتى رأته البوم وسمعته يئن، فأخبرن ملكهن بذلك، فقصد نحوه ليسأله عن الغربان فلما دنا منه أمر بوماً أن يسأله فقال له: من أنت? وأين الغربان? فقال: أما اسمي ففلان، وأما ما سألتني عنه فإني أحسبك ترى أن حالي حال من لا يعلم الأسرار فقيل لملك البوم: هذا وزير ملك الغربان وصاحب رأيه، فنسأله بأي ذنب صنع به ما صنع? فسئل الغراب عن أمره فقال: إن ملكنا استشار جماعتنا فيكنَّ: وكنت يومئذٍ بمحضرٍ من الأمر، فقال: أيها الغربان، ما ترون في ذلك? فقلت: أيها الملك لا طاقة لنا بقتال البوم: لأنهن أشد بطشاً، وأحد قلباً منَّا ولكن أرى أن نلتمس الصلح، ثم نبذل الفدية في ذلك، فإن قبلت البوم ذلك منّا، وإلا هربنا في البلاد وإذا كان القتال بيننا وبين البوم كان خيراً لهنّ وشراً لنا، فالصلح أفضل من الخصومة وأمرتهنَّ بالرجوع عن الحرب، وضربت لهن الأمثال في ذلك، وقلت لهن: إن العدوّ الشديد لا يرد بأسه وغضبه مثل الخضوع له: ألا ترين إلى الحشيش كيف يسلم من عاصف الريح للينه وميله معها حيث مالت فعصينني في ذلك وزعمن أنهن يردن القتال وأتهمنني في ما قلت، وقلنا إنك قد مالأت البوم علينا ورددنَ قولي ونصيحتي وعذبنني بهذا العذاب وتركني الملك وجنوده وأرتحل ولا علم لي بهن بعد ذلك: فلما سمع ملك البوم مقالة الغراب قال لبعض وزرائه: ما تقول في الغراب? وما ترى فيه? قال: ما أرى إلا المعاجلة له بالقتل: فإن هذا أفضل عُدَدِ الغربان، وفي قتله لنا راحة من مكره وفقده على الغربان شديد ويقال: من ظفر بالساعة التي فيها ينجح العمل ثم لا يعاجله بالذي ينبغي له فليس بحكيم ومن طلب الأمر الجسيم فأمكنه ذلك فأغفله فاته الأمر وهو خليق ألا تعود له الفرصة ثانية ومن وجد عدوه ضعيفاً ولم ينجز قتله ندم إذا استقوى ولم يقدر عليه قال الملك لوزير آخر: ما ترى أنت في هذا الغراب? قال: أرى ألا تقتله: فإن العدو الذليل الذي لا ناصر له أهلٌ لأن يستبقى ويرحم ويصفح عنه ولا سيما المستجير الخائف: فإنه أهلٌ لأن يؤمن.
قال ملك البوم لوزير آخر من وزائه: ما تقول في الغراب? قال: أرى أن تستبقيه وتحسن إليه: فإنه خليق أن ينصحك والعاقل يرى معادات بعض أعدائه بعضاً ظفراً حسناً ويرى أشتغال بعض أعدائه ببعض خلاصاً لنفسه منهم ونجاة كنجاة الناسك من اللص والشيطان حين اختلفا عليه قال الملك له: وكيف كان ذلك?
قال الوزير: زعموا أن ناسكاً أصاب من رجل بقرة حلوباً فانطلق بها يقودها إلى منزله، فعرض له لص أراد سرقتها واتبعه شيطان يريد اختطافه. فقال الشيطان للص: من أنت? قال أنا اللص، أريد أن أسرق البقرة من الناسك إذا نام. فمن أنت? قال: أنا الشيطان أريد أختطافه إذا نام وأذهب به فاتهيا على هذا إلى المنزل فدخل الناسك منزله ودخلا خلفه وأدخل البقرة فربطها في زاوية المنزل وتعشى ونام. فأقبل اللص والشيطان يأتمران فيه واختلفا على من يبدأ بشغله أولاً فقال الشيطان للص: إن أنت بدأت بأخذ البقرة فربما استيقظ وصاح، واجتمع الناس: فلا أقدر على أخذه فأنظرني ريثما آخذه، وشأنك وما تريد. فأشفق اللص إن بدأ الشيطان باختطافه فربما استيقظ فلا يقدر على أخذ البقرة، فقال: لا، بل انظرني أنت حتى آخذ البقرة وشأنك زما تريد فلم يزالا في المجادلة هكذا حتى نادى اللص: أيها الناسك انتبه: فهذا الشيطان يريد اختطافك، ونادى الشيطان: أيها الناسك انتبه: فهذا اللص يريد أن يسرق بقرتك فانتبه الناسك وجيرانه بأصواتهما، وهرب الخبيثان. قال الوزير الأول الذي أشار بقتل الغراب: أظن أن الغراب قد خدعكنَّ ووقع كلامه في نفس الغبي منكنّ موقعه، فتردن أن تضعنّ الرأي في غير موضعه فمهلاً مهلاً أيها الملك عن هذا الرأي. فلم يلتفت الملك إلى قوله وأمر الغراب أن يحمل إلى منازل البوم، ويكرم ويستوصى به خيراً.
ثم إن الغراب قال للملك يوماً وعنده جماعة من البوم وفيهن الوزير الذي أشار بقتله: أيها الملك قد علمت ما جرى عليّ من الغربان وأنه لا يستريح قلبي إلا بأخذي بثأري منهن، وإني قد نظرت في ذلك فإذا بي لا أقدر على ما رمت: لأني غراب وقد روى عن العلماء أنهم قالوا: من طابت نفسه بأن يحرقها فقد قرب لله أعظم القربان لا يدعو عند ذلك بدعوة إلا استجيب له فإن رأى الملك أن يأمرني فأحرق نفسي وأدعو ربي أن يحولني بوماً فأكون أشد عداوة وأقوى بأساً عل الغربان لعلي أنتقم منهن! قال الوزير الذي أشار بقتله: ما أشبهك في خير ما تظهر وشر ما تخفي إلا بالخمرة الطيبة الطعم والريح المنقع فيها السم أرأيت لو أحرقنا جسمك بالنار كان جوهرك وطباعك متغيرة! أليست أخلاقك تدور معك حيثما درت، وتصير بعد ذلك إلى أصلك وطويتك? كالفأرة التي خيرت في الأزواج بين الشمس والريح والسحاب والجبل فلم يقع اختيارها إلا على الجرذ وقيل له: وكيف كان ذلك?
قال: زعموا أنه كان ناسكاً مستجاب الدعوة فبينما هو ذات يوم جالساً على ساحل البحر إذ مرت به حدأة في رجلها درص فأرة فوقعت منها عند الناسك، وأدركته لها رحمة، فأخذها ولفها في ورقة، وذهب بها إلى منزله، ثم خاف أن تشق على أهله تربيتها فدعا ربه أن يحولها جارية: فتحولت جارية حسناء فانطلق بها إلى امرأته، فقال لها هذه ابنتي فاصنعي معها صنيعك بولدي. فلما كبرت قال لها الناسك: يا بنية أختاري من أحببت حتى أزوجك به. فقالت، أما إذا خيرتني فإني أختار زوجاً يكون أقوى الأشياء. فقال الناسك لعلك تريدين الشمس! ثم انطلق إلى الشمس فقال: أيها الخلق العظيم إن لي جارية وقد طلبت زوجاً يكون أقوى الأشياء، فهل أنت متزوجها? فقالت الشمس أنا أدلك على من هو أقوى مني: السحاب الذي يغطيني، ويرد حر شعاعي ويكسف أشعة أنواري. فذهب الناسك إلى السحاب فقال له ما قال للشمس، فقال السحاب: وأنا أدلك على من هو أقوى مني: فاذهب إلى الريح التي تقبل بي وتدبر وتذهب بي شرقاً وغرباً فجاء الناسك إلى الريح فقال لها كقوله للسحاب فقالت: وأنا أدلك على من هو أقوى مني وهو الجبل الذي لا أقدر على تحريكه فمضى إلى الجبل وقال له القول المذكور فأجابه الجبل وقال له: أنا أدلك على من هو أقوى مني: الجرذ الذي لا أستطيع الامتناع منه إذا ثقبني واتخذني مسكناً. فانطلق الناسك إلى الجرذ فقال له: هل أنت متزوج هذه الجارية? فقال وكيف أتزوجها وجحري ضيق? إنما يتزوج الجرذ الفأرة فدعا الناسك ربه أن يحولها فأرة كما كانت وذلك برضى الجارية، فأعادها الله إلى عنصرها الأول فانطلقت مع الجرذ فهذا مثلك أيها المخادع فلم يلتفت ملك البوم إلى ذلك القول، ورفق بالغراب ولم يزدد له إلا إكراماً حتى إذا طاب عيشه ونبت ريشه واطلع على ما أراد أن يطلع عليه راغ روغة. فأتى أصحابه بما رأى وسمع فقال للملك: إني قد فرغت مما كنت أريد ولم يبقى إلا أن تسمع وتطيع، فقال له: أنا والجند تحت أمرك، فاحتكم كيف شئت.
قال الغراب: إن البوم بمكان كذا في جبل كثير الحطب وفي ذلك الموضع قطيع من الغنم مع رجل راع، ونحن مصيبون هناك ناراً، ونلقيها في أنقاب البوم ونقذف عليها من يابس الحطب ونتراوح عليها ضرباً بأجنحتنا حتى تضرم النار في الحطب: فمن خرج منهن احترق ومن لم يخرج مات بالدخان موضعه ففعل الغربان ذلك: فأهلكنّ البوم قاطبةً ورجعن إلى منازلهن سالمات آمنات.
ثم إن ملك الغربان قال لذلك الغراب: كيف صبرت على صحبة البوم ولا صبر للأخيار على صحبة الأشرار? فقال الغراب: إنما ما قلته أيها الملك لكذلك لكن العاقل إذا أتاه الأمر الفظيع العظيم الذي يخاف من عدم تحمله الجائحة على نفسه وقومه لم يجزع من شدة الصبر عليه، لما يرجو من أن يعقبه صبره حسن العاقبة زكثير الخير فلم يجد لذلك ألماً، ولم تكره نفسه الخضوع لمن هو دونه حتى يبلغ حاجته فيغتبط بخاتمة أمره وعاقبة صبره. فقال الملك: أخبرني عن عقول البوم: فقال الغراب: لم أجد فيهن عاقلاً إلا الذي كان يحثهن على قتلي، وكان حرضهن على ذلك مراراً فكن أضعف شيء رأياً! فلم ينظرن في رأيه ويذكرن أني قد كنت ذا منزلة في الغربان، وأني أعد من ذوي الرأي ولم يتخوفن مكري وحيلتي ولا قبلنّ من الناصح الشفيق ولا أخفين دوني أسرارهن وقد قال العلماء: ينبغي للملك أن يحصن أموره من أهل النميمة ولا يطلع أحداً منهم على مواضع سره فقال الملك: ما أهلك البوم في نفسي إلا الغي، وضعف رأي الملك وموافقته وزراء السوء فقال الغراب: صدقت أيها الملك، إنه قلما ظفر أحد بغنىً ولم يطع، وقلّ من أكثر من الطعام إلا مرض. وقلّ من وثق بوزراء السوء وسلم من أن يقع في المهالك وكان يقال: لا يطمعنّ ذو الكبر في حسن الثناء، ولا الخبُّ في كثرة الصديق، ولا السّيّ الأدب في الشرف، ولا الشحيح في البرّ، ولا الحريص في قلة الذنوب ولا الملك المحتال، المتهاون بالأمور، الضعيف الوزراء في ثبات ملكه، وصلاح رعيّته قال الملك: لقد احتملت مشقّة شديدة في تصنعك للبوم، وتضرعك لهنّ قال الغراب: إنه من احتمل مشقة يرجو نفعها، ونحى عن نفسه الأنفة والحمية، ووطنها على الصبر حمد غب رأيه، كما صبر الأسود على حمل ملك الضفادع على ظهره، وشبع بذلك وعاش قال الملك: وكيف كان ذلك? قال الغراب: زعموا أن أسود من الحيات كبر، وضعف بصره وذهبت قوته: فلم يستطع صيداً ولم يقدر على طعام وأنه انساب يتلمس شيئاً يعيش به، حتى انتهى إلى عين كثيرة الضفادع، قد كان يأتيها قبل ذلك، فيصيب من ضفاضعها رزقه فرمى نفسه قريباً منهنّ مظهراً للكآبة والحزن فقال له ضفدع: ما لي أراك أيها الأسود كئيباً حزيناً? قال: ومن أحرى بطول الحزن مني! وإنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيب من الضفادع فابتليت ببلاء وحرمت على الضفادع من أجله، حتى إني إذا التقيت ببعضها لا أقدر على إمساكه. فانطلق الضفدع إلى ملك الضفادع، فبشره بما سمع من الأسود فقال له: كيف كان أمرك? قال سعيت منذ أيام في طلب ضفدع وذلك عند المساء فاضطررته إلى بيت ناسك، ودخلت في أثره في ظلمة وفي البيت ابن الناسك، فأصبت إصبعه، فظننت أنها الضفدع، فلدغته فمات فخرجت هارباً، فتبعني الناسك في أثري، ودعا عليّ ولعنني وقال: كما قتلت ابني البريء ظلماً وتعدياً، أدعو عليك أن تذل وتصير مركباً لملك الضفادع، فلا تستطيع أخذها، ولا أكل شيء منها، إلا ما يتصدق به عليك ملكها فأتيت إليك لتركبني مقراً بذلك راضياً به فرغب ملك الضفادع بركوب الأسود، وظن أن ذلك فخراً له وشرف ورفعة فركب و استطاب له ذلك.
فقال له الأسود: قد علمت أيها الملك أني محروم فاجعل لي رزقاً أعيش به فقال ملك الضفادع: لعمري لابد من رزق يقوم بك، إذا كنت مركبي فأمر له بضفدعين يؤخذان في كل يوم ويدفعان إليه فعاش بذلك، ولم يضره خضوعه للعدو الذليل، بل انتفع بذلك وصار له رزقاً ومعيشة وكذلك كان صبري على ما صبرت عليه، التماساً لهذا النفع العظيم الذي اجتمع لنا فيه الأمن الظفر، وهلاك العدو والراحة منه ووجدت صرعة اللين والرفق أسرع وأشد استئصالاً للعدو من صرعة المكابرة: فإن النار لا تزيد بحدتها وحرها إذا أصابت الشجرة على أن تحرق ما فوق الأرض منها والماء ببرده ولينه يستأصل ما تحت الأرض منها ويقال أربعة أشياء لا يستقل قليلها: النار والمرض والعدو والدين. قال الغراب: وكل ذلك من رأى الملك وأدبه وسعادة جدّه وإنه كان يقال: إذا طلب اثنان أمراً ظفر به منها أفضلهما مروءة فإن اعتدلا في المروءة فأشدهما عزماً. فإن استويا في العزم فأسعدهما جداً وكان يقال: من حارب الملك الحازم الأريب المتضرع الذي لا تبطره السراء ولا تدهشه الضراء كان هو داعي الحتف إلى نفسه، ولا سيما إذا كان مثلك أيها الملك العالم بفروض الأعمال، ومواضع الشدة واللين، والغضب والرضا والمعاجلة والأناة الناظر في أمر يومه وغده، وعواقب أعماله قال الملك للغراب: بل برأيك وعقلك ونصيحتك ويمن طالعك كان ذلك، فإن رأى الرجل الواحد، العاقل الحازم أبلغ في هلاك العدو من الجنود الكثيرة، من ذوي البأس والنجدة، والعدد والعدة. وإن من عجيب أمرك عندي طول لبثك بين ظهراني البوم تسمع الكلام الغليظ، ثم لم تسقط بينهن بكلمة! قال الغراب: لم أزل متمسكاً بأدبك أيها الملك: أصحب البعيد والقريب، بالرفق واللين، والمبالغة والمواتاة. قال الملك: أصبحت وقد وجدتك صاحب العمل، ووجدت غيرك من الوزراء أصحاب أقاويل: ليس لها عاقبة حميدة فقد منّ الله علينا بك منّة عظيمة لم نكن قبلها نجد لذة الطعام والشراب، ولا النوم ولا القرار وكان يقال: لا يجد المريض لذة الطعام والنوم حتى يبرأ، ولا الرجل الشره الذي قد أطعمه سلطانه في مال وعمل في يده، حتى ينجزه له، ولا الرجل الذي قد ألح عليه عدوه، وهو يخافه صباحاً ومساءً حتى يستريح منه قلبه ومن وضع الحمل الثقيل عن يديه أراح نفسه ومن أمن عدوه ثلج صدره.
قال الغراب: أسأل الله الذي أهلك عدوك أن يمتعك بسلطانك، وأن يجعل في ذلك صلاح رعيتك، ويشركهم في قرة العين بملكك! فإن الملك إذا لم يكن في ملكه قرة عيون رعيته، فمثله مثل زنمة العنز التي يمصها، وهو يحسبها حلمة الضرع، فلا يصادف فيها خيراً. قال الملك: أيها الوزير الصالح، كيف كانت سيرة البوم وملكها في حروبها، وفيما كانت فيه من أمورها? قال الغراب: كانت سيرته سيرة بطر، وأشر وخيلاء وعجز وفخر مع ما فيه من الصفات الذميمة وكل أصحابه ووزرائه شيبه به، إلا الوزير الذي كان يشير عليه بقتلي: فإنه كان حكيماً أريباً، فيلسوفاً حازماً عالماً، قلما يرى مثله في علو الهمة، وكمال العقل، وجودة الرأي قال الملك: وأي خصلة رأيت منه كانت أدل على عقله? قال خلتان: إحداهما رأيه في قتلي والأخرى أنه لم يكتم صاحبه نصيحته وإن استقلها ولم يكن كلامه كلام عنف وقسوة ولكنه كلام رفق ولين حتى إنه ربما أخبره ببعض عيوبه ولا يصرح بحقيقة الحال بل يضرب له الأمثال ويدثه بعيب غيره فيعرف عيبه فلا يجد ملكه إلى الغضب عليه سبيلاً وكان مما سمعته يقول لملكه: إنه لا ينبغي للملك أن يغفل عن أمره فإنه أمر جسيم لا يظفر به من الناس إلا قليل ولا يدرك إلا بالحزم فإن الملك عزيز فمن ظفر به فليحسن حفظه وتحصينه، فإنه قد قيل إنه في قلة بقاءه بمنزلة قلة بقاء الظل عن ورق النيلوفر وهو في خفة زواله، وسرعة إقباله وإدباره كالريح وفي قلة ثباته كاللبيب مع اللئام، وفي سرعة اضمحلاله كحباب الماء من وقع المطر. فهذا مثل أهل العداوة الذين لا ينبغي أن يغتر بهم، وإن هم أظهروا تودداً وتضرعاً.
Inscription à :
Commentaires (Atom)